تيسير نظمي يبحث عن مساحة..مجموعة قصصية مميزة
تيسير نظمي يبحث عن مساحة..مجموعة قصصية مميزة
المنتصف
كتب :أسعد العزوني
“البحث عن مساحة” هو عنوان مجموعة قصصية شديدة الخصوصية للكاتب المبدع تيسير نظمي ،صدرت في عمّان قبل أيام بطبعتها الثانية،وربما يعني هذا العنوان أن تيسير نظمي متفجر الإبداع وشديد التمكين الثقافي والسياسي ضاقت به الأرض بما رحبت ،وراح يبحث عن مساحة تتسع لفكره وتحتمل ضجيج أدائه.
وشم الكاتب المعروف خليل السكاكيني مجموعة تيسير نظمي القصصية ، بوصفها انها متميزة لغة وسردا وأسلوبا جاء مدهشا،في تقصي الجزئيات الواقعية والنفسية ،كاشفا أنه كان يجهل مكامن طاقات تيسير نظمي الإبداعية في مجال القصة ذات المستوى الرفيع .
ويضيف السواحري أنه تعرف على المبدع تيسير نظمي في ثمانينيات القرن المنصرم كاتبا سياسيا وناقدا أكثر منه أديبا مبدعا،موضحا السواحري في معرض تعليقه على هذه المجموعة ان قصصها ،تضعك في التفاصيل المروعة التي نمر بها جميعا دون ان نلتقطها أو نلتفت إليها،وتلك هي مهمة القاص المبدع الذي تتحول اللحظة لديه إلى سرد قصصي مدهش مفعم بالغرابة في سياق لغوي طازج.
يغوص السواحري في حديثه عن مجموعة تيسير نظمي بقوله أن عوالمها تشبه إلى حدج كبير عوالم كافكا حيث يتحول المعقول إلى لا معقول وتغدو اللحظة النفسية عبئا كبيرا على كل من يعيها.
أما د.أمنية امين فتكتب بالإنجليزية عن مجموعة البحث عن مساحة أن الكاتب تيسير نظمي الذي إمتهن الكتابة في عمر العشرين يبدو أنه صاحب كتابات غير مألوفة وانه كاتب غير عادي ،ولهذا فإنه يساء فهمه كثيرا من قبل البعض .
وقالت انه يكتب الفانتازيا في كتاباته الإبداعية،مع انه معروف في العالم العربي كناقد ادبي،وهو يمتلك نظرة ثاقبة وقدرة هائلة في التحليل،واصفة تيسير بانه كاتب مبدع وناقد ماهر ومترجم فذ وله العديد من الكتب.
قام المبدع تيسير نظمي بتوزيع قصصه على خمسة كتب ضمن هذه المجموعة،كل كتاب يضم عددا محددا من القصص ذات العناوين الجاذبة المحيرة أحيانا ،والتي تتحدث عن قضية شائكة من القضايا المجتمعية الخطيرة ،وتبدو كلماتها وكان نظمي اطلق لها العنان كي تسرح وتمرح في المساحة التي لا حدود لها.
يختلط السياسي بالإجتماعي بالثقافي بالإقتصادي في قصص المبدع تيسير نظمي ،وكأننا في بانوراما أبت أن يكون لها حدودا ،بل تركها نظمي لكراهيته المطلقة للقيود والحدود ،فهو متمرد أصلا ويحتوي بداخله على إمبراطورية متمردين يصعب قمعهم او الحد من حركتهم او حتى تحديد إتجاهاتهم.
ولدى قراءة قصص مجموعة البحث عن مساحة،يكتشف القاريء أن المبدع تيسير نظمي قد ورطه بمشهد حياتي كامل متكامل ،لأنه لن يقرأ قصة تبدأ وتنتهي مثل جملة المبتد أ والخبر او الفعل والفاعل والمفعول به أحيانا،إذ يحتاج القاريء لعرافين أحيانا ومنومين نفسيين أحيانا أخرى، لمعرفة ماذا يريد تيسير نظمي ان يقول ،فهو صاحب الخبر والموقف والناقد اللاذع وربما نافخ الكير عندما يلزم الأمر.
نحن في هذه المجموعة لسنا أمام كاتب عادي يسلق قصته أو فكرته كما يتم سلق البيضة ،بل يقوم بإستحضار قصة الخلق كاملة ليضعنا أحيانا في حيص بيص ،ولا نعرف وجهته أين ،أو ماذا يريد أن يقول لنا ،وأحيانا تكون فكرته ظاهرة للعيان مثل قطعة العجين التي تضعها العروس على باب بيت الزجية منذ الليلة الأولى ،ومع ذلك نعجز عن الوصول إلى كنه الحقيقة،ويتجلى إبداعه في إيجاد مساحة للحديث عن معاناة الفلسطيني ،وينجح في إختيار المكان المناسب والمشهد المناسب واللحظة المناسبة للبوح بذلك إما تقريرا أوتساؤلا .
في قصته الأولى حرس الحدود يغلب الطابع الأمني والوداع والبكاء والحقيبة والسفر والنقاشات السياسية ،وهذه أجواء الفلسطيني منذ النكبة حيث نجده دائم الترحال والتعرض للتفتيش على الحدود العربية ،مع ان الحكومات العربية تتغنى ليل نهار بحب الشعب الفلسطيني ودعم القضية الفلسطينية ،وهو في هذه القصة يشبه القطار بالزمن .
يرمي المبدع تيسير نظمي في قصصه لسرد مراحل من حياته ،وإلى كشف معاناة الآخرين من المهمشين ونذالة أصحاب النفوذ البرجوازيين ،وربما يرمي أيضا إلى تصوير الواقع المر المعاش،وينجح في كافة مراميه لنه يستخدم الكلام السهل البسيط مع انه كلام محشو بالرصاص الحارق الخارق.
يشبه أسلوب المبدع تيسير نظمي المغنطيس الذي يلتقط كل أنواع المعادن المدفونة في التراب ،فهو يغوص في تفاصيل التفاصيل ويصل إلى العمق ،في حين أننا نشهد في العصر الحديث كتابات مر أصحابها على الأطراف مرورا خفيفا لم يمكثوا فيه بمقدار شهيق أو زفير ،أما نظمي فإنه يقيم في الفكرة حتى تنضج وتظهر واضحة.
لم تأت كتابات المبدع تيسير نظمي من فراغ ،فهو يمتلك ذاكرة شفافة حساسة تلتقط أدق التفاصيل الحياتية وتبلورها حتى تخرج فكرة عجنها نظمي بماء الإبداع المذهب ،فكانت تلمع كالذهب مع انها هي الذهب.
يمتلك المبدع تيسير نظمي القدرة على الغوص في كل المجالات فتراه يبدع في الحديث عن التراث ويوظف أدواته في إخراج الفكرة التي يريد،وهو قادر على متابعة فكرته لحظة بلحظة كي تولد كاملة بلا رتوش.
يستطيع المبدع تيسير نظمي تقمص الشخصية التي يريد بكل إتقان ،فتراه يتقمص دور الفيلسوف ويتحدث حكما بحكمة،وتراه شابا أو عجوزا أو بشرا من طينة خاصة،ويعطي كل شخصية حقها كما هو الحال في قصص الكتاب الأول.
تيسير نظمي في قصصه ليس راوي حديث أو مهرج أو صاحب نكتة عشوائية تهدف إلى إضحاك القاريء والسلام ،بل هو عالم نافس وباحث ورجل تاريخ ومخطط ومهندس وسيناريست ومخرج يحرص على إخراج فكرته بالطريقة التي تخدم توجهاته ،وهذه هو الإبداع بعينه.
يظهر المبدع تيسير في قصصه كل الخبايا المجتمعية والسياسية ويعالجها بطريقته الخاصة نويضع إصبعه على الجرح ،فيستر على هذا ويعري ذاك،ويؤشر على هذه ويفضح تلك في حال تمادت وإستحقت الفضيحة.