مارسيل خليفة ..”قرمية” الزمن الفني الجميل
مارسيل خليفة ..”قرمية”
الزمن الفني الجميل
المنتصف
بقلم أسعد العزوني
تساوت قامة الفنان القومي الملتزم “قرمية “الزمن الفني الجميل ،الفنان اللبناني الملتزم مارسيل خليفة ،صاحب الطلّة البهية القادر على تحريك الساكن في النفوس الحزينة والمحبطة ،تساوت مع عظمة آثار جرش التي ما تزال تروي لنا قصة الإبداع وعظمة تاريخ المنطقة،والرغبة الملحة للحضارات العالمية الكبرى ان تجد لها موطيء قدم فيها من أجل الوصول إلى أرض الخلود فلسطين ،ومجاورة المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط.
ظهر ذلك جليا خلال الأمسية الطربية المشاعرية المميزة التي أحياها الفنان المتميز مارسيل خليفة ،مساء الجمعة الماضي في المسرح الجنوبي بمدينة جرش التاريخية،وكانت كلماته تلامس الأحجار الأثرية التي أكل عليها الدهر وشرب وتتفاعل معها،قبل أن تلامس شغاف قلوب البشر الذين يرتبطون مع الفنان مارسيل بعلاقة شعوية ومشاعرية من نوع خاص ،وتدخلهم في سكرة صوفية تغفو الأرواح في ثنانيا لتتذكر شيئا ولو بسيطا من الزمن الجميل الذي كان يحدونا الأمل فيه بالحرية والتحرير ولكن……….
أحسست أن المسرح الجنوبي قبل دخول “العريس” أن المكان التاريخي تهيأ فعليا لقدوم الضيف ،حتى يقدم له التحية التي تليق بفنان ملتزم تليق مثل مارسيل خليفة،ولذلك كان دخول مارسيل ووقوفه قامة كبيرة على المسرح له معنى ومغزى كبيرين ،وكان دخوله رزينا مهيبا أوصل رسالته لجمهوره دون أن ينبس ببنت شفة ،وتفجر الجمهور المتعطش لكلام مارسيل الذي يزخر بالمعى والصور ،ويرتبط بالأرض والوطن كجذور الزيتون الرومي المعمر،وهنا تكمن أهمية كلماته بمعانيها وصورها مثل “تصبحون على وطن ،وشدوا الهمة،وأحن إلى خبز وقهوة ولمسة أمي”.
إرتعشت قلوب الجمهور المحب لمارسيل عند الإعلان عن قرب دخول “المعلم”،وعندما دخل ووقف على المسرح بكامل هيبته ووقاره والتزامه ،ضاعف الجمهور من جرعة التحية والحفاوة ولكن بدون ضجة إحترامة لهيبة ووقار معلمهم،وقابلهم المعلم بالمثل ولم يقم كغيره بإستعطاف الجمهور للتفاعل معه ،وإكتفى بإنحناءة معبرةأمام الجمهور ،ثم جلس وإحتضن عوده وأخذ يعزف منفعلا ولكن بصمت ،لأن موسيقاه العذبة بدأت تروي عطش جمهوره المحب،وربما تفاعلت معها حجارة المكان بطريقتها وطبيعتها الخاصة ،وبعد إنتظار غير طويل أو ممل صفق الجمهور إستحسانا وما تزال إبتسامة الفنان الملتزم على دلالها.
طالت مداعبة الفنان مارسيل خليفة لأوتار عوده ،وهو متحفز للغناء وسط تصفيق وتصفير الجمهور المحب،وما أن خرجب من بين شفتيه أول كلمة تحررت من أحباله الصوتية ،حتى ضج الجمهور المحب معلنا فرحته بوجود الفنان مارسيل خليفة،وربما لم تكن مصادفة أن يغني خليفة لبعلبك اللبنانية الأثرية فوق مسرح مدينة جرش الأردنية الأثرية ،وما فهمته بإحساسي أن أرضنا واحدة وهي لنا رغم مرور الكثيرين عليها.
كانت كلمات خليفة تخرج من قلبه المفعم بالدفء وتصل إلى جمهوره وفق نسق خاص ،وكان سرده لذيذا معبرا دافئا لتحالفها مع الموسيقى الرائعة التي كان يعزفها أعضاء فرقته ،ومع مشاعر جمهوره المتعطش لسماع الأغاني الملتزمة بعد ان سادت الأغاني الهابطة.
منذ أن اعلن الفنان مارسيل عن وجوده ،خاطب الجمهور محييا بكلام طيب ناعم،وطلب من جمهوره ترديد أغنية “في البال أغنية يا أخت عن بلدي”معه،ولم يبخل الجمهور بذلك،وكان مشهدا أكثر من رائع أن يستمع الفنان إلى جمهوره بخشوع القديسين الأتقياء الأنقياء ،ثم ينطلق هو جامحا كمن إمطى صهوة فرسه الأصيل ليخوض معركة المصير،وعند الإنتهاء من هذه الأغنية وجه تحية خاصة لصديقة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش ،وتحدث عنه وعن علاقته بتلك الأغنية،ثم شرع بغناء “ريتّا”بدون عزف بداية ،ثم أكمل الجمهور عنه الغناء فيما كان مارسيل يشنف آذانه ويستمع إلى جمهوره ، وقال أن الوزراء يغنون معنا اليوم ،إشارة إلى وجود عدد من الوزراء الأردنيين في الحفل.
بسيطا كان مارسيل خليفة في مظهره وملبسه ،وكان وجهه صبوحا بعيدا عن الإرهاق والتعب وعوامل القهر والزمن ،ويتجلى عند مشاركة الجمهور الغناء ،وكان يظهر قداسة من نزع خاص وهو يصدح ملتزما عن الأرض والوطن والبندقية،وإستطاع بمهارته الفائقة توظيف جمهوره المحب للغناء معه بين الفينة والأخرى ما أعطى السهرة طعما خاصا مميزا.
إمتازت أغاني مارسيل خليفة بخاصية غير موجودة عند غالبية المسجلين في سجلات الطرب والغناء الذين يطلق غالبيتهم كلمات جوفاء ،وكان جمهوره يتدفق ثورة عندما يأتي على ذكر البندقية،وأفضل وصف لأغاني مارسيل خليفة انها ليست طربية مجردة تحرك العواطف الممجوجة وتثير الغرائز ،بل هي أغان تعج بالعاطفة ولكن من نوع خاص ،لأنها أغاني قضايا إنسانية تهم الجميع وهي مغلفة بالهم الإنساني والمعاناة المعاشة مثل” لا تنسى شعب الخيام “التي تقول :”وأنت خارج بيتك فكر بغيرك ولا تنسى شعب الخيام ،وأنت تعد فطورك لا تنسى قوت الحمام، وأنت تخوض حروبك فكر بغيرك ولا تنسى طير السلام”.
التحالف بين مارسيل خليفة وجمهوه كان مقدسا،وصاغه الفكر المشترك بينهما بمهارة فائقة ،إذ كان الجمهور أحيانا يبدأ بترديد كلمات الأغنية بحماس فور بدء الفنان مارسيل بالعزف،ومن ضمن إشتعالات المسرح الجنوبي على وقع أغاني فنانا الملتزم ،كانت أغنية “منتصف القامة أمشي”،وكان التناوب على أصوله بين مارسيل وجمهوره ،فهذا يقول الجملة الأولى وذاك يكمل الثانية وهكذا دوليك،كل ذلك بهدير محسوب ومضبوط يتردد صداه في كافة أرجاء المسرح الجنوبي ،ويحار المرء عندما يستع الفنان مارسيل لجمهوره وهو يردد أغانية ،وهو يبتسم بلطف تعبيرا عن راحة نفسية داخلية أن غرسه لم يفشل بل أثمر جيلا ملتزما .
إتسم أداء مارسيل خليفة بالتأثير الروحي الكبير مع انه بلا تكليف ولا إنفعال في غير محله،وكان يخاطب عقول ووجدان جمهوره على ملامسته للعاطفة في جانبها العقلي الملتزم البعيد عن إثارة الغرائز الشهوانية التي تعبر عن الإسفاف،وبعد الغناء عن الوطن والأرض والجدة ،جاء دور الأم في أغنية الشهيرة “أحن إلى خبز أمي “بعد صمت من الجمهور بطلب من الفنان خليفة الذي داعب أوتار عوده بلطف ،ثم قال بطريقته المعهودة التي تبعث على الحزن :”أحن إلى خبز امي وقهوة امي ولمسة أمي”.
كان الشغل العاطفي في هذه الأغنية قادرا على تعميق صمت الجمهور وكاننا في حضرة الأم فعلا،وكان السرد متقنا ومصاغا بحرفية عالية تشعل العاطفة حتى في القلوب الميتة،وبعد الحنين إلى قهوة وخبز ولمسة الأم جاء دور التحشيد لرد الإعتبار بعد التفريط الذي أدى إلى الضياع في أغنية “شدوا الهمة..الهمة قوية”،ليشتعل المسرح الجنوبي مجددا بترديد الجمهور لكلمات الأغنية.
ما يمتاز به الفنان الملتزم مارسيل خليفة وحضوره الدائم في أذهان الجميع دون غيره من المطربين أنه يغني بعنفوان وكبرياء وانفة ،ويصل إلى عقول جمهور هقبل قلوبهم ،ومن يصل إلى العقل أولا تكون له الإقامة الدائمة والترحاب وكل المحبة.