صحيفة المنتصف
وأكثرها إيلامًا حرقه عام 1969 حين غافل الإرهابي روهان عيون المرابطين التي لم تغب عن هذا المسجد وتسلل خلسة وأضرم النار في المسجد صبيحة الخميس 21 آب عام 1969، لتلتهم ألسنة اللهب المصلى القبلي وأثاثه وجدرانه ومحراب زكريا ومقام الأربعين ومسجد عمر بن الخطاب وأروقته الثلاثة الممتدة من جنوب المسجد الى شماله.
حينها، حاول المحتلون بكل الطرق منع إطفاء الحريق حسب روايات شهود عيان تواجدوا لحظة الحادث من خلال قطع المياه، وعدم ارسال فرق الإطفاء، لكنَّ الفلسطينيين تمكنوا من السَّيطرة على الحريق ووقفه، لتندلع بموازاة ذلك موجات احتجاج واسعة في أنحاء العالم، وتم على أثرها إنشاء رابطة العالم الاسلامي، ثم ليتولى الأردن عمليات الترميم والإشراف على المقدسات. ومنذ اندلاع ذلك الحريق لم تنطفئ النار حتى يومنا هذا، وهو ما تثبته الأرقام الموثقة للاعتداءات الإسرائيلية مع مرور الأيام، والتي تشير الى أن إسرائيل تستفز مشاعر المسلمين من خلال الاعتداء على قبلتهم الأولى، ففي الفترة بين 1967 وحتى العام 2000 بلغت اعتداءات الاحتلال على المسجد 131 مرة، ونحو 200 مرة بين عامي 2001 وحتى 2010 بحسب أرقام فلسطينية موثقة، وخلال الأعوام 2011 وحتى 2013 اعتدى الاحتلال 116 مرة، وفي الفترة من 2014 ولغاية 2018 بلغت الاعتداءات: 162، 255، 281، 302، و 225 لكل عام على حدة وعلى التوالي، فيما بلغت في سبعة أشهر الاولى من العام الحالي 223 اعتداء، وخلال الأعوام 2011 وحتى 2013 اعتدى الاحتلال 116 مرة، لكنَّ المرابطين ومؤازريهم من خلفهم كانون يفوتون الفرصة على الاحتلال لتنفيذ أهدافه على مدى هذه السنوات. أمين عام اللجنة الملكية لشؤون القدس عبدالله كنعان قال ان حريق المسجد الاقصى قبل 50 عاماً لم يكن الاعتداء الاسرائيلي الاول والوحيد، ولن يكون الاخير على المقدسات الاسلامية والمسيحية وغيرها من القطاعات في الضفة الغربية المحتلة عامة وفي القدس الشرقية على وجه الخصوص.
وأضاف، ان تلك الاعتداءات التي تعددت اشكالها وتوالت وتصاعدت وتيرتها، طالت عدداً من العقارات والاراضي والمباني بالهدم او المصادرة، وتم بناء العديد من البؤر والمستعمرات الاستيطانية التي طوقت القدس الشرقية من جميع الجهات، وتم تشديد الخناق على المواطنين العرب داخل القدس بفرض قوانين عنصرية حرمت العديد من ابناء القدس من حمل هوية القدس، كما حرمتهم من الحصول على رخص البناء او حتى ترميم المساكن القديمة، ووضعت قيوداً على الاقتصاد بفرض الكثير من الضرائب، ولم يسلم قطاع التعليم والصحة من مثل تلك القيود التي اضعفت الوضع الاجتماعي والاقتصادي والعلمي في القدس.
وبين ان اعتداءات سلطات الاحتلال الاسرائيلي تركزت مؤخراً على المسجد الاقصى المبارك، فمنعت دائرة الاوقاف الاسلامية بالقدس من القيام بواجبها في ترميمه وحراسته، واعتقلت او ابعدت عدداً من العاملين والمرابطين عن القدس او عن المسجد، واشترطت حصول دائرة الاوقاف على موافقة مسبقة من الاحتلال للقيام بواجباتها، ووضعت قيوداً على دخول المصلين الى المسجد اما بتحديد أعمار من يسمح لهم بالدخول او بتحديد الساعات التي يسمح لهم فيها بالدخول الى المسجد كي تفسح المجال للمتطرفين اليهود لاقتحام المسجد.
وأوضح كنعان ان الاقتحامات تتم بشكل يومي وبحراسة مشددة من قوات الاحتلال وبقيادة حاخامات ومسؤولين يهود متطرفين في محاولة لفرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد، مشيرا الى ان الصمت الدولي على ممارسات اسرائيل “السلطة القائمة بالاحتلال” ادى الى تماديها في الاعتداءات لتصبح بشكل علني.
وأشار بهذا الخصوص الى تصريح وزير الامن الداخلي الاسرائيلي قبل يومين والذي طالب خلاله بتغيير الوضع القائم في القدس ليتمكن المستوطنون من اداء طقوسهم التلمودية في جبل الهيكل بحرية حسب زعمه، في محاولة اسرائيلية يائسة لتحييد الوصاية الهاشمية على المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس.
وقال، في الذكرى 50 لحريق المسجد الأقصى ما زال الاردن يتمسك بموقفه وهو الذي هبَّ الأردن بقيادته الهاشمية صاحبة الوصاية الهاشمية على المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس فور حدوث الحريق الى إعمار ما أتى عليه الحريق، وصنع منبرا مماثلا للمنبر الأصلي، واستمر في دفاعه عن المسجد ويدعمه بما يلزمه من موظفين وكل ما يحتاجه ويتحمل مسؤولية الوصاية على المقدسات الإسلامية والمسيحية.
واشار الى ان جلالة الملك عبدالله الثاني يؤكد دائماً أن القدس خط احمر ولا للشراكة ولا للتقسيم. وقد أقرت الشرعية الدولية ومنها القرار الصادر بتاريخ 18 تشرين الاول 2016 عن منظمة اليونسكو ان المسجد الاقصى البالغة مساحته 144 دونماً هو من المقدسات الاسلامية الخالصة ولا علاقة لليهودية به، كما طالب القرار اسرائيل بالعودة الى الوضع التاريخي القائم (الاستيسكو)، ولا زال جلالته يحمل لواء الدفاع عن قضية القدس وفلسطين في المحافل الدولية كاملة ويعلن أن الأمن والسلام الدوليين يرتبطان بحل القضية الفلسطينية، وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه كاملة وإقامة دولته المستقلة على تراب وطنه وعاصمتها القدس الشرقية.
وطالب جلالته المجتمع الدولي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والعالمين العربي والإسلامي بحكوماته ومنظماته ومؤسساته وأفراده العمل صفاً واحداً لوقف الاعتداءات الإسرائيلية وإلزام إسرائيل بتطبيق قرارات الشرعية الدولية التي لا تجيز لإسرائيل “السلطة القائمة بالاحتلال” القيام بهذه الاعتداءات.
وتساءل كنعان: لماذا لا تتخذ الامم المتحدة قراراً يلزم اسرائيل بتطبيق قراراتها الشرعية وينهي الاحتلال وفق البند السابع الذي يفرض على اسرائيل عقوبات في حال رفضها تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وبذلك يتم تجنيب المنطقة مخاطر لا تحمد عقباها ويتحقق الامن والسلام الذي ينشده العالم وينهى الاحتلال الوحيد في العالم حالياً؟ عضو مجلس النواب الدكتورة ديمه طهبوب تقول إن فلسطين عامة والمسجد الأقصى خاصة ليست فقط تواريخ نستذكرها ونستحضرها في أوقات ومواسم معينة، بل نعيش ونتعايش معها يوميا، وما الحريق الأول إلا بداية لحرائق كثيرة توالت؛ حرائق حقيقية ومعنوية تمثلت في حجم الهزائم التي رسَّخت وجود الاحتلال الاسرائيلي، ووسَّعت رقعة الاستيطان وابتلعت الجزء الأكبر من أراضي فلسطين وقسَّمت ما بقي منها. “المسجد الأقصى ليس أفضل حالا اليوم” تضيف طهبوب، وتؤكد أن المسلمين والعرب تفرقوا وابتعدوا عنه، وما عاد المسجد يجمعهم، فأمعن الاحتلال في فرض التقسيم المكاني والزماني على المسجد بالقوة بواسطة قطعان المستوطنين، وبهذا تُنتهك القرارات الدولية التي أكدت أن الحرم القدسي الشريف إرث خالص للمسلمين لا يشاركهم به أحد.
ومنذ حرقه لم تفتأ إسرائيل عن مهاجمة الأقصى والمرابطين فيه، تقول طهبوب، وتحفر كل يوم تحته تمهيدا إلى تفريغه من الأسفل بهدف هدمه وهو ما سيظل بعيد المنال عنهم ما دام في هذه الأمة قلب ينبض. وعن نصرة الأقصى بينت أنها ليست ذكرى للبكاء عليه، بل هو حضور دائم ونصرة برفض كل أشكال معاهدات التصفية للقضية الفلسطينية، والوقوف بوجه التقسيمات المكانية والزمانية، وتثبيت المقدسيين في القدس وإعمار المسجد والبيوت، ودعم الأوقاف الأردنية فيها، والوصاية الهاشمية، وزيادة عدد الحراس وحلقات العلم والتصدي للاقتحامات، وإبقاء مصلى باب الرحمة مفتوحا، والقيام بجهد برلماني عربي ودولي؛ لعزل الاحتلال، وإدانة القوانين العنصرية، ومقاومة التطبيع. أستاذ علم الاجتماع والجريمة في جامعة مؤتة الدكتور حسين محادين يقول أن من الواضح جدا أن مثل هذه السلوكات الاسرائيلية تجاه المسجد الأكثر قدسية لدى المسلمين والأمة العربية تريد إسرائيل من خلالها إخماد جذوة الإيمان والتضحيات واقتلاعها من جذورها لدى الأجيال من الأطفال وصولا إلى التفرد بالحكم والسيطرة بمنطق القوة.
ويضيف، ان الاحتلال يهدف بسعي مغرض ودؤوب للمساواة بين القاتل والشهيد، والمعتدي والمعتدى عليه، والمحتل وصاحب الأرض، ظنا منه أن البشرية بلا ذاكرة، لافتا الى أن الشواهد على الأرض وفي معاني الشهادة في هذه القضية التي لها ارتباط في الصميم ولن يستطيع أحد مسحه أو انهاءه.
ويشير محادين إلى أن الأردن بقيادته الهاشمية الشَّابة تحت ظل جلالة الملك عبدالله الثاني يعزز صمود المقدسيين ويشد من عضدهم وتشكل القدس أولوية في وجدان الملك والشعب ولن يكونا دائما إلا معه. وعن مشاعر الأردنيين في حريق الأقصى والانتهاكات يؤكد أن الموضوعات القيمية والإيمانية ترتبط ببعدين متفاعلين يشكلان هوية حاملهما؛ الأولى مرتبط بالجغرافيا وهي قاعدة الانتاج وتوليد الكفاءات ومولدات الأفكار التي تنطلق منها لكنها عابرة لها، أي أن الجغرافيا والقدس تحديدا هي الحالة القائمة بذاتها وليست لذاتها بالمعنى الديني ومن هنا تصبح هذه الدِّعامة مرجلًا مولدًّا للأفكار والمشاعر عبر الأجيال لتأخذ معنى الخلود في الوجدان العام. أما البعد الثاني فهو الإيمان وهذا تحديدا لا يتأتى بقرار وإنما يرشح من وجدان ووعي داخليين يشكلان لاحقًا الجذر القيمي لهذا الإيمان فيتحدان لاحقًا ويشكلان هوية المعتقد وحامليه، لافتا الى العلاقة بين المسجد الأقصى والسماء في بعدها الديني والعقائدي والتاريخي.
ويؤكد أن كل هذه التضحيات والإيمان تنجلي منها فكرة تناوب الأجيال وانتقال هذه الصيرورة الإيمانية إلى ما هو إنساني بامتياز، وكل هذه العوامل تجعل من التضحيات بالأرواح رسالة مستدامة لدى العرب والمسلمين انطلاقا من هذه البؤرة وانتقالا إلى الأحياء عند ربهم يرزقون.
وكان جلالة المغفور له بإذن الله الملك الحسين طيب الله ثراه أمر بعد إحراق المسجد الأقصى بتشكيل لجنة من العلماء والمهندسين والفنانين المختصين؛ لإعادة إعماره ع قبة الصخرة المشرفة، والمباني الدينية الأخرى في محيطه وقد تبرع جلالته بتكاليف الإعمار كاملة.
وقام أعضاء اللجنة المشكلة بالعديد من الدراسات حتى تمكنوا من فك لغز تصميم منبر صلاح الدين الذي يتألف من 16500 قطعة خشبية معشقة مع بعضها دون استخدام المسامير او البراغي أو أي مواد يمكن أن يكون لها أثر كالغراء أو غيره، وخلال اربع سنوات تم تصنيعه بالكامل في جامعة البلقاء التطبيقية ومن ثم نقله إلى المسجد الاقصى المبارك بداية العام 2007 بنفس القياسات والتصميم والشَّكل والخشب والعلامات والآيات والخط العربي التي تميز بها المنبر الاصلي، فيما وضع جلالة الملك عبدالله الثاني اللوحة الزخرفية الأولى في جسم المنبر الجديد، واستمر جلالته بدعم ترميم باقي الاجزاء التي اصابها الحريق، والتي كان العمل بها بدأ بأمر من جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه منذ العام 1967، اذ تم ترميم 1560 مترًا مربعًا من الزخارف الفسيفسائية الموجودة بالمسجد وتوثيقها وتحليلها ورسمها وإعادتها إلى ما كانت عليه في العهد الاموي الاول، وتعهد جلالته ومن حسابه الخاص بتكاليف عدة مشروعات ترميمية في أروقة المسجد تزيد قيمتها على 5 ملايين دولار، وهذا هو ديدن الأردن لا يتخلى عن المسجد الأقصى والقدس.
–(بترا)
ب ص/وم/اح 20/08/2019 13:25:54