“مهمة خطيرة وتحمل للمسئولية”… بقلم موسى العدوان
مهمة خطيرة . . وتحمل للمسئولية
بقلم موسى العدوان
صحيفة المنتصف
في حياة كل إنسان محطات يحاول التوقف عندها، واستعادة ذكريات الماضي بحلوها ومرّها، استنباطا للدروس والعِبر وتذكرة لأجيال لاحقة. ففي محطتي هذا اليوم التي تتضمن عيدين وطنيين، هما عيد الاستقلال وعيد الجيش، أرغب أن أتوقف قليلا لأستعيد ذكرى حادثة عسكرية، ما زال بعض أفرادها على قيد الحياة، توثيقا للتاريخ أكثر منه لأي قصد آخر.
بعد الخامس من حزيران ،1967 وعودتنا بمعنويات متردية إلى معسكراتنا في الزرقاء، غير مصدقين لما حدث معنا في تلك الحرب، تحولت مشاعرنا إلى مساندة العمل الفدائي، الذي كانت تمارسه المنظمات الفدائية الفلسطينية ضد العدو الإسرائيلي من خلال الأراضي الأردنية، خاصة بعد أن قال جلالة الملك حسين رحمه الله ” أنا الفدائي الأول “. فأمرت القوات المسلحة بتسهيل عبور المجموعات الفدائية لنهر الأردن، وتغطية عملياتها بنيران المدفعية.
نشطت العمليات الفدائية، وأصبحت تزعج القوات الإسرائيلية، الأمر الذي دفعها لشن غارات جوية على قواعد الفدائيين في الغور شرقي النهر، وعلى ومواقع الجيش الأردني، بما فيها القرى والمدن وقناة الغور الشرقية. وفي أحدى الليالي قامت قوة إسرائيلية بمهاجمة قرية الشيخ محمد في الغور الشمالي، ودمرت العديد من المنازل وأوقعت إصابات بين عدد من المدنيين.
إزاء هذا الوضع، تم إلحاق سريتي الثانية من كتيبة الأمير عبد الله، بلواء اليرموك من فرقة المشاة الثانية، والتي تتولى مسؤولية الدفاع عن المنطقة الشمالية الغربية من المملكة. حُدد مركز تجمع السرية في قرية دير أبو سعيد، الواقعة على أكتاف سلسلة الجبال الغربية، وأسندت لي مهمة نجدة القرى الأمامية في الغور، من نهر اليرموك شمالا وحتى سيل الزرقاء جنوبا بمسافة تقارب 60 كيلو مترا.
صدر لي الأمر بأن تتنقل السرية على الجنزير بعد الضوء الأخير يوميا، على الطريق المنحدرة دير أبو سعيد – الزمالية في الغور، دون استخدام أضواء الآليات. وكان عليّ أن أمضي الليل هناك استعدادا لأي طلب نجدة، ثم أعود صباحا إلى مواقعي إذا لم يحدث الطلب المحتمل. واستمر ذلك الحال لما يقارب الشهر، حيث طُلب مني التمركز في منطقة مثلث الزمالية، بدلا من الحركة الليلية المعتادة.
وعلى ضوء هذه المهمة أجريت تقديرا للموقف، فتوصلت إلى الحقائق التالية :
1. مثلث الزمالية عبارة عن عقدة مواصلات تقع عند التقاء الجبال بسهول الغور، وهناك فسحة من الأرض طلب مني التمركز بها، رغم أنني توقعتها هدفا مسجلا لمدفعية العدو.
2. قناة الغور الشرقية تحد من الحركة ويصعب اجتيازها إلا من خلال الجسور المقامة عليها.
3. منطقة المسؤولية التي عليّ أن أقوم بنجدتها يبلغ طولها حوالي 60 كيلومترا وعرضها من النهر وحتى سفوح الجبال الشرقية، يتراوح بين 5 – 10 كيلو مترات.
4. إي هدف قد يهاجمه العدو سوف لن يستغرق الوصول إليه وقتا طويلا، نظرا لقصر المسافة بينه وبين النهر .
5. إذا حاولنا نجدة أي منطقة معتدى عليها، ستأخذ منا وقتا طويلا في الوصول إليها خاصة في الليل، حيث يكون العدو قد نفذ مهمته وانسحب إلى مواقعه قبل وصولنا إليه.
6. من المعروف عسكريا، أن أية قوة تهاجم هدفا معينا، فإنها تعمل على عزل منطقة الهدف بوضع كمائن قوية على طرق التقرب المحتملة، لمنع وصول النجدات إليه. وهذا ما ستفعله القوات الإسرائيلية المهاجمة مهما كان حجمها، وهو الموقف الذي سنواجهه في حالة النجدة المتوقعة.
شرحت لقائد اللواء هذه الصعوبات، واقترحت أن نغادر منطقة مثلث الزمالية ونوزع السرية في ثلاثة أجزاء، تتمركز في مواقع قريبة من الأهداف المحتملة، وتستطيع أن تقوم برد الفعل السريع على أي عمل معادٍ. ولكن قائد اللواء لم يستجب لذلك. فاضطررت للتعايش مع تلك المهمة الخطيرة والمعروفة نتائجها مسبقا، مفترضا أننا شهداء اللحظة . . ولكننا نمشي في الوقت الحاضر على أقدامنا . . !
وبناء على ذلك قررت إجراء استطلاع مفصل، من قبل قادة الفصائل وآمري وسائقي الناقلات، للتعرف على طبيعة الأرض والأهداف المحتملة، ومواقع الجسور المقامة على قناة الغور الشرقية. ثم اخترت نقاط الاستطلاع التي يجب التوقف عندها من الخارطة. وفي اليوم التالي حملت هذه المجموعة ( 30 فردا )، في إحدى شاحنات السرية من نوع فورد 3 طن، وأمرت السائق بالحركة خلف سيارتي إلى مواقع الاستطلاع، شارحا لهم المعلومات الضرورية في كل نقطة.
كانت إحدى نقاط الاستطلاع تقع على بعد 500 متر من جسر الشيح حسين، وعلى التلة المجاورة له في ضفة النهر الغربية، تقع نقطة مراقبة إسرائيلية محصنة. وعندما وصلنا إلى نقطة الاستطلاع مقابل تلك النقطة، شعرت بخطأي الكبير. فقد يستخدم العدو أسلحته المتوسطة من تلك النقطة ضدنا، ويوقع خسائر كبيرة بالأفراد. فأمرت السائق بمغادرة الموقع على عجل.
الطريق القديمة إلى جسر الشيخ حسين كانت ضيقة ومعبدة، تخترق أراضٍ زراعيةٍ محروثة ومروية حديثا بالمياه على الجانبين، ولا يمكن للشاحنة أن تعمل استدارة من خلالها. أخذ السائق يناور ويحاول الاستدارة بالشاحنة في عرض الطريق الضيقة على مرأى من العدو. ولكون جهاز توجيه الشاحنة لا يعمل ( بنظام الباور )، فقد أخذت عملية الاستدارة حوالي 15 دقيقة خلتها 15 ساعة.
وفي هذا الموقف الحرج توقعت الأسوأ . . فوقفت بين الشاحنة ونقطة المراقبة المعادية قائلا في نفسي : إذا أطلق العدو النار على جنودي في الشاحنة . . فيجب أن أتلقى النيران قبلهم متحملا مسؤولية خطأي، وبعيدا عن عبارة ” سئل فأجاب”. ولكن غادرت الشاحنة الموقع وبقيت متسمّرا في مكاني، إلى أن ابتعدت الشاحنة عن نظري، وأنا غير مصدق أنها سلمت من الاعتداء، ثم واصلت معهم عملية الاستطلاع.
في أواخر العام، نُقل قائد اللواء وعُيّن مكانه العميد الركن محمد موسى اليطاوي، بعد أن كان ملحقا عسكريا في الباكستان، وهو ضابط معروف بكفاءته العسكرية واهتمامه الكبير بالعمل. وعندما زارني في موقع السرية بمنطقة الزمالية، لامني لوجودي في ذلك الموقع، باعتباره هدفا مسجلا لمدفعية العدو. فبينت له أن هذا الأمر قد فرض علي رغم إرادتي، فاختار لنا موقعا آخر أكثر أمنا نُقلنا إليه.
بقينا على هذا الحال حتى أوائل شهر شباط عام 1968، حيث جرى نقلي مدربا في مدرسة المشاة. وفي وقت لاحق حدث تبادل قصف مدفعي بين القوات الأردنية والقوات الإسرائيلية في نفس المنطقة. وعندما التقيت بالعميد محمد موسى اليطاوي – رحمه الله – أخبرني بأن العدو، لم يترك شبرا واحدا في موقع الزمالية، إلاّ وأسقط به قنبلة مدفعية من العيار الثقيل، فحمدت الله على النجاة.
في الختام . . لا يسعني إلاّ أن أبارك اليوم للمحتفلين بعيد الجيش وقبله بعيد الاستقلال، رغم أن خدمتهم العسكرية أو المدنية، مريحة وبعيدة عن الشقاء وتحمل المسئوليات الخطيرة أسوة بمن سبقهم. وعليه فإن أولئك الأشقياء السابقين، لا يستحقون كلمة شكر في هاتين المناسبتين الوطنيتين، علما بأنهم لا ينتظرونها من خيالة هذا الزمان الغريب . . !
التاريخ : 10 / 6 / 2020