مقام وأعياد النبي موسى عليه السلام
ما هي الأهداف القومية وأبعاد الاحتفالات منذ عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي.
من مذكرات ) ال غضية ( الحسيني متولي وقف النبي موسى
بقلم أديب جودة ( ال غضية ) الحسيني أمين مفتاح كنيسة القيامة في القدس الشریف
صحيفة المنتصف
في كل عام ، وعلى امتداد اكثر من ثمانمائة وخمسون عامًا مضت ، كان المسلمون في بيت المقدس ومدن فلسطين يحتفلون بموسم النبي موسى عليه السلام ، ولهذا الاحتفال خلفية قومية مجيدة ، وغايات في الحقيقة كان جميع السكان بحاجة إليها .
فالمعروف أنه وبعد تحرير مدينة القدس من الاحتلال الصليبي أصدر السلطان العادل العامل صلاح الدين بن يوسف بن أيوب ، تغمده الله برحمته تعالى ، أوامره باستحداث عيد قومي ، احياءا لذكرى النبي موسى عليه السلام ، لقد كان هذا النداء بدافع الحرص والدفاع عن جميع من سكنوا مدينة القدس ، من أي اعتداء أو غدر ، قد یبیت لهم من قبل الوافدين الأجانب.
لم يغفل السلطان صلاح الدين على ما فعله أوائل الصلیبیین حين احتلوا مدينة القدس في عام 1099م من ارتكاب المجازر وذبح السكان الذين كانوا يقطنون المدينة المقدسة.
فقد أمر بجلب عدد من القبائل العربية وأسكنهم في مدينة القدس ، فتوطن القدس قبائل من بني حارث وكانت منازلهم عند القلعة في غربي القدس خارج المدینة ، ( وقبیلة بني مُرَة ) في الغرب الشمالي الى سوق الفخر ( خان الزیت ) ، ومنطقة حارة السعدية ( لبني سعد ) وكانت لهم حراسة باب الخلیل ویحملون مفتاح الباب معهم ، ( وبني زید ) في عقبة الشیوخ ، وسوق القطانین ( لعرب الجرامنة ) .
وبموجب اتفاق تم مع الصلیبیین فقد سمح لحجاج الافرنج بالقدوم للأراضي المقدسة من اجل الحج والزیارة.
بدأت بعد ذلك الأفواج تتوالى وبازدياد ، وكان تجمعًا كبیرًا في مدينة القدس بمناسبة عید الفصح ، وفي العام التالي تضاعف العدد ، فخشي صلاح الدین أن ینقض الفرنج الاتفاقیة ویصیبون أهل بیت المقدس بشر وأذى كبیر ، فأمر بعمل وقائي ليجنب أهل بیت المقدس المخاطر ، وذلك بأن ابتكر أعیاًد دینیة وقومیة وهي كالأتي:
عید النبي موسى
في بقعة تبعد 25 كیلومترًا عن مدینة القدس ، وثمانیة كیلومترات عن مدینة أریحا ، لقد أمر السلطان صلاح الدین بأن یتجمعوا المسلمون بسلاحهم في ذلك المكان ، حیث أقیم نصب على شكل مقام في الخطوة الأولى لسیدنا موسى علیه السلام ، في وقت من السنة یصادف أسبوع أعیاد عید الفصح المجید حیث تجري الاحتفالات في كنیسة القیامة وساحتها بتجمعات كبیرة للوافدین الأوروبیین الأجانب ، فكانت فكرة صلاح الدین إیجاد تجمع احتیاطي مضاد ، وأن یبقى هذا التجمع من الفرسان المسلحین على أهبة الاستعداد لحین انتهاء أعیاد الفصح المجید وعودة الزوار الى بلادهم.
وفي العام الثاني تضاعف عدد الفرسان الذین یأتون من كل حدب وصوب ، بعشرات الألوف والغایة من ذلك هو إیجاد قوة ضاربة تكون على أهبة الاستعداد للتدخل من أجل نصرة ونجدة اخوانهم في بیت المقدس ، فیما لو تعرضوا لأي اعتداء من الأجانب الذین ربما یكونون قد تسربوا بلباس الرهبان بینما هم في الحقیقة جنود.
وكان موسم النبي موسى لأهل بیت المقدس وأعمالها ، وموسم النبي صالح لمدینة الرملة وأعمالها ، وموسم الداروم لمدینة غزة وأعمالها ، وموسم المنطار ، وموسم الحسین لمدینة عسقلان وأعمالها ، وموسم أبي عبیدة الجراح لعرب المساعید و المشالخة والصقر ، وموسم النبي روبین لمدینة وأعمالها ، وموسم ابي العیون لبني صعب والشعراوي.
لقد جعل صلاح الدین هذه المواسم جمیعًا تابعة لموسم النبي موسى وذلك لنفس الغایة.
أما في عهد السلطان الظاهر بیبرس ( في عهد الممالیك ) فقد دخل موسم النبي موسى مدخلاً جدیدًا عندما شید البنیان والأروقة والغرف العدیدة والمطابخ ، وبنى مقام سیدنا موسى والجامع وكان ذلك عام 668 هجریة ثم أوقفت علیه الكثیر من العقارات والأراضي ومنها أراضي في مدینة أریحا والعوجا وصور باهر وخربة الجردة وخربة اللوزة.
فكان ضروریًا أن ینظم دخل هذه الأراضي ورعایة الأیرادات وكیفیة صرفها على الطعام وغیر ذلك ، یذكر بأن الطعام كان یوزع مجانًا على الأعداد الكبیرة الهائلة الوافدة إلى مقام النبي موسى.
اوكل لعائلة ( آل غضیة ) الحسیني بالتولیة على وقف الأنبیاء الثلاثة ( موسى ویونس ولوط ) عليهم السلام وذلك بموجب فرمانات سلطانیة وحجج صادرة عن المجلس الشرعي بالقدس ، ما زالت موجودة بحوزة العائلة حتى یومنا هذا، حیث أستمرت عائلة ( آل غضیة ) الحسیني منذ عهد الممالیك امتدادًا للعهد العثماني حتى تاریخ الإنتداب البریطاني على فلسطین بالإشراف على تنظیم وادارة الوقف ، والصرفیات وصیانة المباني ، وشراء الأواني ، وغیر ذلك ، ثم الأشراف على الاحتفالات الشعبیة التي لم تكن ارتجالیة ، بل كانت وفق بروتوكول مكتوب ومتعارف علیه ولا یتم الأحتفال الا بموجبه وكان الاحتفال یتم على الوجه التالي:
( یوم المناداة بموسم النبي موسى علیه السلام )
الأحتفال بالمناداة كان یجري مباشرًة بعد صلاة یوم الجمعة، والذي یسبق ( یوم زفة العلم ) . حیث كان یتم ذلك في قاعة المحكمة الشرعیة الواقعة في باب السلسلة ، في داخل البلدة القدیمة في القدس ، وذلك بحضور أفراد عائلة ( آل غضیة ) الحسیني المتولیة على الوقف ، و قاضي القدس الشرعي ، ومأمور أوقاف القدس ، والعلماء ، والمشایخ ، والوجهاء ، وحشود المسلمین .
علم شباب نابلس, علم شباب الخلیل والقضاء
بعد مرور ستة أیام على المناداة یحضر شباب نابلس والقضاء الى القدس بعلمهم ، حیث یتجمعون قرب جامع الشیخ جراح ، ویكون في استقبالهم شباب القدس، والقضاء بأعلامهم تتقدمهم موسیقى دار الایتام الاسلامیة ، وفرق الكشافه ، أما شباب الخليل والقضاء ، فيجري استقبالهم مع علمهم في باب الخلیل ، وتجرى لهم نفس المراسم الاحتفالية .
وتسير المواكب وهم ينشدون الأناشيد ، حتى یصلوا الحرم القدسي الشریف ، وتتوالى المواكب من المدن الفلسطینیة الأخرى بأعلامها ، حيث يجري لها نفس الاستقبال.
یوم زفة البیرق
یجتمع كل من متولي الوقف من ( آل غضیة ) الحسیني ، والقاضي الشرعي ، ومأمور الأوقاف ، وممثل السلطة الحاكمة ، في دار البیرق بالقدس القدیمة ، إذ یتم تلبیس علم النبي موسى ، من قبل متولي الوقف ، وكذلك يرفع علم النبي داود ، وعلم المسجد الأقصى المبارك باحتفال رسمي ثم یتلى الدعاء وقراءة الفاتحة، وذلك ایذانًا ببدء الاحتفال ، حيث یبدأ الموكب سیره باتجاه مقر المجلس الإسلامي ، ومنه الى الحرم الشریف ، یتقدمهم شباب القدس ، باعلامهم ورجال الموسيقى والكشاف ، مرددين الأناشيد ثم یخرج الموكب من المسجد الأقصى ، الى باب المجلس الإسلامي ، وبعدها الى طریق الواد ، فشارع الروضة ،الى باب الأسباط فالجثمانیة ، إلى رأس العامود ، وسط الأهازیج وزغارید النسوة والهتافات وأصوات الموسیقى والدبكة .
حقًا … إنه لیوم مشهود، حین یجتمع القوم بمناسیة خیرة وعید قومي ، ونفوس الجمیع مفعمة بالبهجة والفرح ، ویتجه الموكب الى مقام النبي موسى علیه السلام ، حیث المضارب والفروسیة واللیالي الساهرة.
لم ینقطع الاحتفال السنوي في نفس المكان والوقت من كل عام منذ عهد الأیوبیین امتدادا لعهد الممالیك فالعهد العثماني حتى نهایة الانتداب البریطاني وبدایة الحرب والنزوح.