حب بين الأسلاك الشائكة ” رفعت ودلال”… بقلم أسامة برهم
حب بين الاسلاك الشائكة رفعت ودلال…بقلم أسامة برهم
صحيفة المنتصف
منذ نكبتنا الفلسطينية وثق الكل قصصنا الموجعة , وتفاصيل النزوح ووجع المذابح , وكتب الكل عن جندي فدائي لم ينزل عن سور القدس الا عند نفاذ الذخيرة , وكتب من يحسن الكتابة عن سقوط المدينة , وعن هروب الجنود وعن خيبات وصمت تاريخ شعب أعزل , ومنهم من بحث عن صور لمشنقة أو مقصلة , وعن طفل لاجئء يبكي في حضن جده المسن في مخيم للبؤس لم يبنى بعد ,والكل كتب عن المجازر و اغتصاب التاريخ العظيم , وغابت من روايتنا قصص الحب التي نجحت , وعن روميو وجوليت بالنسخة الفلسطينية , ولا زلنا نبحث عن قصص الحب المترجمة من الغرب كأننا شعب لا نتقن الحب ولا نحترفه , وعند البحث وجدت مليون قصة حب كانت اسطورة غابت عن أقلام الكتاب .
دلال ورفعت , شابان من القدس ,تربطهما القرابة وقصة حب مخفية , وبضع رسائل مكتوبة بالحبر السري , بعض كتب نجيب محفوظ وتسجيلات ام كلثوم , وقصة حب نمطية في مجتمع محافظ ككل المجتمعات العربية , رفعت كان الشاب الوسيم في منتصف العشرين , يعيش في القدس قبل سقوطها , ودلال الفاتنة الحسناء انهت التوجيهي بإمتياز, دلال الجميلة التي لم تبلغ العقد الثاني من عمرها , حزمت حقائبها وحاجياتها وبعض الهدايا القديمة و الرسائل وسافرت الى لبنان لتلتحق بالجامعة الامريكية ببيروت , وصارت قصة الحب بين مد وجزر , لا تكنولوجيا ولا رسائل نصية ومكالمات فيديو وقتها , كان ساعي البريد يعرفهما جيدا , لكن الرسائل باتت شحيحة , ورفعت ينتظر الاجازات ليحظى بلقاء فاتنته , ولا امل لكلاهما الا باللقاء في المدينة التي أحبتهم , القدس.
عند انتهاء الفصل الدراسي وبدأ الكل يعود في اجازة الصيف , كان رفعت ينتظر عودة حبيبته , لم يكن يعرف ان حزيران سيكون قاسيا هذه المرة, ولم يكن يعرف ان المدينة سيغزوها الغرباء , ولم يكن يخمن رفعت ان ستة أيام ستغير الخارطة , وستتغير الحدود , وسيحمل بطاقة هوية لا علاقة له بها , وستصبح بيروت دولة عدوة , ودولة حدودها مغلقة , ولا امل بالذهاب ولا الرجوع منها و اليها , ومن كان فيها سيبقى فيها , وصار رفعت يتخبط بين نشرات الاخبار و الصور بالجرائد , ويبحث عن حبيبته بين العناوين السريعة , ولم يعد ساعي البريد يوصل الرسائل اليها .
انقطع الاتصال بحبيبته , ودلال ببيروت تلبس السواد وتشدو قصائدا لبلادها , و تستقبل المعزين من زملائها العرب في تلك الجامعة بسقوط البلاد , لا احد لدلال ببيروت الا سكنها الجامعي و ملابسها وتلك الهدايا التي اخذتها من رفعت المنتظر في البلاد , غادرت دلال بيروت مع الى الكويت بعد أن ارسلت لها صديقتها الكويتية تذكرة سفر الى هناك كي لا تبقى وحيدة في بيروت, قال لها الامن في المطار الكويتي سنستقبلك هنا ضيفة تسع وعشرون يوما لا اكثر , تسع وعشرون يوما لترممي جرحك وتغادري الى أي مكان , لم تستقبل الدول العربية اللاجئين هذه المرة كي لا تضيع البلاد ويلجأ الكل , فأخذت طائرة الى الأردن نتنظر نصرا أو فتح للمعابر , هي لا تملك وثيقة وهي ليست مقدسية بعد اليوم , حينما جاء الجنود لإحصاء السكان لم يكن اسمها بين السكان .
كان الاتصال بين رفعت ودلال شحيحا , ورفعت العاشق يصلي لمعجزة تعيد حبيبته , ولا معجزات مع تلك الخيبات , حدد رفعت مكان حبيبته عند أقرباء لهم بالأردن , وبدأ يعد الخطة ليسترجعها من هناك ليبني بيتا في القدس , فكر رفعت في كل الوسائل , وبات رفعت شاحبا أكثر, وبدا كمشرد هائم على وجهه بين رفاقه و أحبته , و الأصوات تهمس في اذنه , منهم من قال انساها ستبدأ حياتها هناك , ومنهم من أقنعه بالسفر الى الأردن و الزواج هناك , ومنهم من قال له تسلل أو فلتتسلل هي الى هنا , ورفعت لا يسمع من الأصوات الا صوتها الذي احب .
في ليلة منهكة قال له صديقه الداهية وزميله بالعمل “ألفرد كوشكجي” أن حركة البضائع بين الأردن وفلسطين المحتلة لا زالت مستمرة , فلنهربها الى هنا تهريبا , وبدأت الفكرة تتبلور بسرعة , سيذهب رفعت الى الأردن بشكل رسمي , ويلتقي بحبيبته , وسيزور الأوراق لتدخل معه , وتارة يفكر ان يضع حبيبته في صندوق فارغ في شاحنة نقل من هناك , والأفكار بدت مخيفة , جميلة , لكنها مستحيلة , جنود ودبابات على الحدود , وزعران يعيشون نشوة الانتصار , ومعهم أوامر لقتل كل ما هو مشبوه , ولا أحد يحصي القتلى على الحدود , ولا أحد يوثق أسمائهم والوانهم واحلامهم , والموت اعتياديا وبسيطا وسلس , لكن رفعت لم يكترث للموت وجهز حقيبته والأوراق وكتب وصيته وتركها مع صديقه ليعطيها للعائلة بعد السفر , وغادر البلاد على أمل اللقاء بحبيبته والعودة .
ركب رفعت سيارة نقل كبيرة محركها مكشوف وبلا أبواب وكراسيها حديد ,هكذا أراد الاحتلال أن يكون شكل الشاحنات كي لا تستخدم بالتهريب , لا نوافذ ولا مكيف ولا شيء يقي رفعت والسائق حر الشمس وبات المشهد يصبح كئيبا , مركبات الجنود لا زالت في طريق أريحا , والسيارات التي تركها أصحابها , ونقطة الحدود المستحدثة موحشة , و المزاج العام حتى على حدود الأردن مخيف , خيبة وهزيمة , والمستقبل مجهول, لكن رفعت مصر على ان يكمل رحلته الى العاصمة عمان رغم المخاطر .
وصل رفعت الى عمان , والتقى بدلال لقاءا ممزوج بالمشاعر , ففي رأس دلال مليون سؤال , أهلها وعائلتها وأمها , , ورفعت يسرد الأجوبة ويصف لحبيبته شكل الدمار , بعد حديث مطول اعلنا خطبتهما رسميا هناك , فقد فهمت تلك الانيقة ان هذا الشاب يموت من أجلها , لم يكن إقناع دلال بتلك المغامرة صعبا , هي رغم جمالها ودلالها لم تكن صبية تستسلم , وافقت دلال على العودة وفكرا الاثنان بطريقة للعودة, طلب رفعت من دلال أن تذهب الى أي استوديو لتحضر صور شخصية لها , بحث رفعت عن ختم أزرق كما بالوثائق الاصلية , فوجد في أحد المكاتب ختما مكتوب عليه “مدفوع” باللغة العربية, وضع رفعت صورة دلال على جواز سفره وختم على نصف الصورة السفلي تلك العبارة والنصف الاخر من الختم على وثيقة السفر , وكانت تلك الوثيقة أول وثيقة يجتمع فيها العاشقان على ورق , وكانت أول ورقة رسمية بقانون الحب مزورة بقانون المحتل تجمع قصة حب حقيقية , وتوجها بعدها الى الجسر الذي يفصل الضفة عن الضفة الأخرى عائدان الى القدس بختم “مدفوع” وبجواز سفر مزدوج .
أي جنون هذا !!! المركبة تقترب رويدا رويدا من الجسر , القلب يخفق ويكاد يتفجر , ورفعت مرتبك جدا , ودلال تجلس كأميرة تكابر ولا تعترف بالخوف , يحاول أن يهدئها وهو المضطرب خوفا , وهي كفرس في سباق الخاسر فيه يموت بعده , و الجسر يقترب والسيارة تسرع نزولا , كان المرور من الجانب الأردني سهلا , قد يكون الجندي الأردني وقتها يعلم ان هناك شيء غير منطقي بالوثيقة , لكنه فهم أنهما يريدان العودة الى الديار ,فأغمض عيناه وسمح لهم بالمرور عساهما ينجحا في العودة , مرت دلال ورفعت عن الجسر الخشبي المترهل من أثار الحرب الى الجانب الغربي للنهر ,اقترب أحد الجنود من السيارة وكله غضب , أبرز رفعت الأوراق بثقة وكأن الختم حقيقي حاول العاشق المغامر أن لا يرتبك ,قلب الجندي جواز السفر , لم يفهم هذا الغريب عن البلاد واللغة والتاريخ أن الختم مزور , ولم يفهم ان لا جواز سفر لاثنان في العالم , لكنه ظن أننا شعب متخلف ونجمع الأشخاص في وثيقة واحدة ونحتاج لقليل من التطور , فأعاد للسائق الوثائق وصرخ بصوت عالي “ساع”
بدأت السيارة بالسير, و الجنود يصغرون بالمرآة أكثر و أكثر , و الصمت المطبق يحتل صندوق المركبة , ورفعت يشعر بالنصر والانتصار , و قلبه يرقص ويكاد ان ينهمر بالبكاء حبا وفرحا , ودلال تشعر بالخنقة , الغضب , الهزيمة , فقطعت الصمت المخيف وصرخت “ساع …. شو يعني ساع ” وقالت لهم هل كلمة “ساع” تلك التي أبدأ بها رحلة عودتي الى فلسطين , وبدأت تعاتب رفعت على الهزيمة وعلى النكسة وعلى الحدود والحواجز و الخراب , وكأن رفعت هو الذي كان لا بد له من حماية أرض كاملة , هو حبيبها الثائر الذي ضحى لاجلها , كيف سمح للغرباء باحتلال القدس !!
وصل رفعت القدس متعبا فرحا , وجد العائلة اتنتظره بغضب وحب , أهل دلال الذين هم أهله كانوا فرحين بالمغامر , و أهله كانوا على غضب من مغامرة طائشة لا يفعلها مراهق , وصديق رفعت الأمين حامل الرسالة قد أوصل الرسالة التي تركها والوصية الى أهله , وألفرد الاخر بدأ يتغنى بالنصر الذي هو شريكا مباشرا في صنعه , ورجع رفعت الى وظيفته كثائر حرر الضحايا من الأسر , والفخر حليفه .
رفعت ودلال تزوجا في نفس العام , ورفضت السلطات الاسرائيلية الاعتراف بدلال على انها مقدسية , لم يعترف الاحتلال بها ولا بتاريخها بالقدس , وكان اسمها غائب عن السجلات والقوائم وكان لا بد من لم شملها كأنها من الضفة الغربية , ,رفعت ودلال لا زالا يذكران تلك القصة , ويتسابقا على الحديث عنها , والكل منهما يذكر الاخر بالتفاصيل , ولا زالت دلال جميلة كما كانت , ورفعت لا زال العاشق لحبيبته , ولا زالت كلمة “ساع” توجع قلب دلال أكثر , وتعيد رفعت الى الحدود , ولا زالت الأقلام غائبة عن قصص حبنا وكأنها عار علينا بالحرب , وعيب علينا وسط الدخان
لم يفهم الجنود وكتبة التاريخ ان من لا يتنازل عن حبيبته لن يتنازل عن أرضه , من يقرأ تفاصيل القصة من أصحابها سيفهم قليلا عن شعب عنيد , شتان من يبيع روحه رخيصة لأجل حبيبته وبين من يبيع حبيبته رخيصة لأجل روحه .
*ساع:كلمة عبرية معناها امشي .
*القصة حقيقية وهي جزء من السيرة الذاتية لرفعت ناصر الدين وزوجنه دلال.