فقه العقل… بقلم د.محمد علي الحسيني
صحيفة المنتصف
يحظى العقل بمكانة مهمة في الإسلام، فهو أحد مصادر تشريع الأحكام، والبحث فيه يستوجب البحث في الحسن والقبح ومعانيهما المختلفة، فالعقل أساس وشرط للتكليف الشرعي بإتيان الأحكام والالتزام بها، ومن فقد العقل كالمجنون مثلا فهو غير مدرك، وغير مميز فيستحيل أن يتوجه إليه بأداء التكاليف، فهذا ظلم، والله لا يظلم أحدا، وأيضا لصحيح رواية الإمام محمد بن علي الباقر(عليه السلام): «لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا في من أحب. أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب». فالعقل هو الأساس الذي يترتب عنه الجزاء من الثواب والعقاب.
الحسن والقبح في ميزان العقل
تكمن أهمية العقل في كونه يدرك علاقة التضاد بين السواد والبياض، وهي تعني استحالة اجتماعهما في جسم واحد، ويدرك علاقة التلازم بين السبب والمسَبَب، فإن كل مسَبَب في نظر العقل ملازم لسببه ويستحيل انفكاكه عنه، نظير الحرارة بالنسبة إلى النار، ويدرك علاقة التقدم والتأخر في الدرجة بين السبب والمسبَب.
من هنا ندرك أن للأفعال حسنا أو قبحا ذاتيا وبإمكان العقل أن يدرك ذلك ويحكم به، فالصدق أو العدل – مثلا – حسن في ذاته، والكذب أو الظلم قبيح في ذاته، وبمقدور العقل أن يدرك ويحكم على حسن ذاك وقبح هذا.
إذن فمنشأ الحسن أو القبح ومقياسه هو العقل، والذي به استدل على وجود الخالق وصدق دعوة ورسالة الأنبياء، وبالعقل ثبت الشرع نفسه؛ إذ إن الطريق لإثبات النبوات يتوقف على إثبات صدق الله تعالى وتنزهه وأنبيائه عن الكذب، وكذلك تنزهه تعالى أيضا عن إظهار المعجزة على يد الكاذبين من مدعي النبوة، ولا طريق لإثبات ذلك إلا بتوسط حكم العقل القاضي بقبح الكذب عليه تعالى وقبح إظهار المعجزة على يد الكاذب.
العقل والاستنباط الفقهي
إن العقل أصل حاكم على الدين وليس محكوم عليه، وإن مرجعية العقل في إثبات الحسن أو القبح ووظيفته الإدراك، وللعقل ما يعرف عند جميع العقلاء بـ (المستقلات العقلية)، فالعقل من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط الفقهي.
الدليل العقلي: كل قضية يدركها العقل، ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعي.
وينقسم الدليل العقلي إلى قسمين:
الدليل العقلي المستقل: وهو الدليل الذي يستقل في دلالته على الحكم الشرعي، أي ما لا يحتاج إلى إثبات قضية شرعية لاستنباط الحكم.
ومثاله: القضية القائلة: بأن كل ما حكم العقل بحسنه أو قبحه حكم الشارع بوجوبه أو حرمته.
فإن تطبيقها لاستنباط حرمة الظلم مثلا، لا يتوقف على إثبات قضية شرعية مسبقة. بل يعتمد على مقدمتين عقليتين تمثل إحداهما كبرى القياس وأخرى صغراه فتقول: كل ما حكم العقل بقبحه حكم الشارع بحرمته وهذه تمثل كبرى القياس، وقد حكم العقل بقبح الظلم، وهذه تمثل صغرى القياس، فينتج: حكم الشرع بحرمة الظلم.
الدليل العقلي غير المستقل: وهو الدليل العقلي الذي لا يستقل في دلالته على الحكم الشرعي، بل يستمد من الدليل الشرعي. بمعنى أن هذا الدليل يحتاج إلى إثبات قضية شرعية لاستنباط الحكم، بعكس الدليل العقلي المستقل.
ومثاله: القضية القائلة: إن وجوب شيء يستلزم وجوب مقدمته.
فإن تطبيقها لاستنباط وجوب الوضوء يتوقف على إثبات قضية شرعية مسبقة، وهي وجوب الصلاة.
فيكون القياس على النحو التالي: وجوب الشيء يستلزم وجوب مقدمته (كبرى)، الوضوء مقدمة شرعية للصلاة (صغرى)، فينتج: حكم العقل بوجوب الوضوء.
خلاصة فقه العقل: أن العقل يدرك حسن الشيء وقبحه ذاتيا، ويدرك العلاقات بين الأشياء بعد معرفتها، ثم يحدد نوعية هذه العلاقات، سواء كانت تضادا أو تناقضا أو تلازما ونحوها، والعقل حاكم ومرشد وموجه، وهو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، والعقل من العناصر المشتركة في عملية استنباط الأحكام الشرعية، وهو حجة ملزمة يؤخذ بها.