غزة تعيش فصول النكبة من جديد
صحيفة المنتصف
غزة من وردة زكريا بن جرمي – في مدينة الصمود و الدموع و الوجع في آن واحد تتعالى صرخات مئات آلاف الذين نزحوا إلى منطقة المواصي جنوب قطاع غزة ، بعد قصف عنيف ومستمر من قبل الجيش الإسرائيلي ، مما دفعهم مرغمين إلى اللجوء لذلك المكان و العيش في أشباه الخيام ، رغم أنها لا تحمي من قيظ و لا تستر من برد حتى لا تصلح للعيش الآدمي ، لا سيما أن الخيمة الواحدة مقتضه كأسماك السردين تتلاصق فيها الأجساد و تكاد تخنق الأنفاس ، إضافة إلى أنها تفتقر لأدنى مقومات الحياة.
أينما وليت وجهك ترى خيمة ، تصور أنك يمكن أن تعيش أنت و كل أفراد عائلتك في خيمة واحدة على مساحة لا تزيد عن مترين في مترين ، تأكل و تنام و تفعل أشياء آخرى في نفس المكان ، نحن لا نبالغ ؛ فهذه صورة واقعية تماماً بل أن كلماتنا أقل من الحقيقة التي تنطق بها و تعبر عنها مئات الخيام التي يسكنها آلاف النازحين.
ذهبت إلى هناك مرغمة لعدة أيام ، الصبيه و البنات و النساء يجلسن في العراء ، أحداهن تحاول صناعة ما تيسر من طعام ، و الأخرى تضع الغسيل على أطراف الخيمة ، و في الجانب المقابل بعض الأطفال يحاولون ممارسة طفولتهم بين زقاق الخيام.
حاولت أن أجلس مع عدد من هؤلاء العائلات علَ كلُ منا يخفف من معاناة الآخر ، و لكن هذا الأمر ضرب من الجنون و شيئاً من المستحيل ، لا سيما أن كُل منا قد فقد شيئاً عزيزاً عليه في هذه الحرب الطاحنة و المستمرة على قطاع غزة لشهرها العاشر على التوالي ، بدأ الحوار الذي استأثرت به النساء فقط بينما فضل الرجال الصمت ألماً و بؤساً فلم يعد باليد حيلة.
أول المتحدثات سيدة تجاوز عمرها الخمسين تشع الطيبة من كل ملامحها رغم البؤس و الألم الذي يسكن في عيونها الزرقاء ، حدثتني عن رحلة المعاناة التي عايشتها بعد قصف بيتها في عزبة بيت حانون شمال القطاع فاضطرت إلى ترك أغنامها و النزوح إلى النصيرات و من ثم إلى منطقة المواصي جنوب القطاع ، و اضافت : “نجد صعوبة كبيرة في توفير أدنى متطلبات الحياة من طعام و مياه ، و ما توفره لنا وكالة الاونروا لا يكفي “.
و في الخيمة المجاورة لتلك السيدة حاولت إحدى السيدات النازحات أن تشرح لي معاناتهم خلال توفيرهم للأساسيات الضرورية من طعام و مياه ، و قالت : ” نمشي ساعات طويلة من أجل الحصول على بعضه لترات من المياه المالحة لأن المياه الصالحة للشرب لم تعد متوفرة ، نقف في طابور لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة من أجل الحصول عليه و هذا إن حالفنا الحظ و لم تنفذ تلك المياه قبل الوصول إلى دورنا ، و بعدها نقف في طابور مماثل لساعات طويلة من أجل الحصول على بعض أرغفه من الخُبز و هذا إن توفر ، ثم طابور آخر من أجل الحصول على بعض علب المعلبات ، للأسف حياتنا أصبحت كلها طوابير”.
و خلال استعدادي للذهاب استوقفتني إحدى السيدات يبدو أنها سمعت بعضاً من حديثي و عرفت أنني صحفية ، لبسها مُغبر و كأنها خرجت من فوهة مدخنة ، بائسة و الإرهاق والتعب يبدو على ملامحها ، قالت لي و الدموع تتبلور في مُقلتيها : ” مُنذ يوم و نصف نمشي على الأقدام نحن و عدد من العائلات تحت القصف لنصل إلى هُنا ، نزحنا من الشمال مُتجهين إلى الجنوب اعتقاداً منا أن الجنوب آمن كما يدعي الجيش الإسرائيلي، لكنه يكذب لا يوجد مكان آمن ؛ غزة من شمالها إلى جنوبها تتعرض للقصف و التدمير و الإبادة”.
مئات بل آلاف القصص الإنسانية الصعبة نعيش تفاصيلها يومياً في قطاع غزة ، هنا يسقط الشهداء ، يُحرم الجرحى من الدواء ، تُمزق الطفولة أشلاء ، و تموت الإنسانية أمام الشاشات على الهواء ، و لكن رغم كل ذلك هُنا باقون كالجدار ، كقطعة زجاج كالصبار .