الانتصار الحزين …من الذي انتصر في غزة؟
بقلم سعيد المومني

صحيفة المنتصف
هل هي حماس التي خرجت من الحرب مثقلة بالجراح لكنها بقيت؟
أم الغزّي الذي فقد بيته وأبناءه وبقي يرفع العلم من فوق الركام؟
أم الفلسطيني الذي رأى في تلك النار عودة لقضيته بعد أن حوصرت بالنسيان؟
أم العربي الذي استيقظ ضميره بعد طول سبات؟
أم قناة الجزيرة التي واجهت آلة القصف بالكلمة والصورة ودفعت ثمن الحقيقة دماً؟
أم المتظاهرون الذين خرجوا في عواصم العالم رافعين علم فلسطين رغم قمع الشرطة وجنون الإعلام؟
أم المنظمات الحقوقية التي وقفت في وجه آلة القتل الإسرائيلية، وحاولت أن تُعيد الإنسانية إلى معناها؟
ربما كل هؤلاء انتصروا، وربما لا أحد.
لكن المؤكد أن ما جرى لم يكن نصراً صاخباً، بل نصراً حزيناً، انتصار يشبه البكاء، ويذكّر بأن الحرية في منطقتنا لا تأتي إلا بثمن من النار.
غزة التي دُمرت .. والقضية التي نهضت
تسعون بالمئة من مباني غزة دُمرت بالكامل: لا كهرباء، لا ماء، لا مدارس، لا مستشفيات، ولا مساجد ولا طرق ولا شجر. أحياء اختفت من الخريطة، وعائلات مُسحت من السجل المدني. خمسون ألف شهيد؟ ستون؟ ربما أكثر، والعدّ لا يزال جارياً، لأن الأرض لم تعد تتسع للأسماء.
ومع ذلك، من تحت هذا الركام، نهضت القضية الفلسطينية كما لم تنهض منذ عام 1948. في لحظة بدا فيها كل شيء منتهياً، أعادت غزة الحياة إلى الفكرة التي أرادوا دفنها. أعادت فلسطين إلى الوعي العالمي، إلى الميادين والجامعات، إلى الضمير الإنساني الذي نام طويلاً.
لقد خسر الغزّي كل شيء، لكنه استعاد المعنى. استعاد كرامة القضية وذاكرة النضال، وأثبت أن الدم الفلسطيني ما زال قادراً على أن يُربك معادلات القوة.
انتصار الشعوب وهزيمة الأنظمة
نعم، انهزمت الأنظمة العربية كما هو متوقع، لكنها لم تُهزم وحدها؛ لقد خذلنا الشعب الفلسطيني نحن أيضاً.
انتصارنا كان عاطفياً، شفهياً، في الكلمات والدموع والصور، في النقاشات والسهرات الطويلة التي كنا نلعن فيها الظلم ثم نخلد إلى نوم مريح. كنا نناصرهم من دفء الكهرباء، وهم يقاتلون في العتمة. كنا نغضب ساعة، ثم ننسى ساعة أخرى. لقد انتصرنا بقلوبنا لا بأفعالنا، وخذلناهم كما خذلتهم الأنظمة، وإن كان خذلاننا مغلفاً بالعجز والوجع، لا بالقرار والسياسة.
وفي المقابل، كانت الشعوب الغربية التي طالما اتهمناها بالبرود والأنانية أكثر صدقاً في لحظتها الإنسانية: خرجت بمئات الآلاف إلى الشوارع، رفعت الأعلام الفلسطينية، طالبت بوقف الحرب، وواجهت حكوماتها.
أما نحن، فقد واجهنا صمتنا وخوفنا، وتوارينا خلف “العجز”، وكأن الدم الفلسطيني لا يعنينا إلا على الشاشات.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن أصواتاً عربية حية حاولت أن ترفع رأسها فوق الركام، وأن تصنع حالة دعم وإسناد للقضية الفلسطينية، في الإعلام، وفي الشارع، وفي المنابر والمنصات الرقمية التي لم تُغلق بعد. بعضها دُفع إلى الصمت بالقوة، وبعضها دفع الثمن بسمعته أو موقعه أو رزقه، لكنها بقيت شاهدة على أن الروح العربية لم تمت بعد، وأنّ تحت الركام دائماً بريق ضوء صغير يُقاوم العتمة.
النضال لا يكون مجاناً
هناك من يلوم حماس ويقول: “لقد دمروا القطاع وخسروا كل شيء”.
لكن هل كان يُفترض على الشعب الجزائري أن يوزّع الورود على المحتلّ الفرنسي؟
وهل كان على الفيتناميين أن يقدموا الهدايا للجنود الأميركيين الذين دمّروا أرضهم؟
هل كان على الأفغان أن يقيموا الأعراس ابتهاجاً بدخول الجيش الأميركي وقصفه لبلادهم؟
هل كان على العراقيين أن يفتحوا بيوتهم للأميركي الغازي وهو يسقط دولتهم ويهين سيادتهم؟
هكذا يكون النضال، ليس قصيدة في نشرة الأخبار، ولا بياناً سياسياً متوازناً. النضال ليس نضال أوسلو، ولا دايتون، ولا تنسيقاً أمنياً يُسلم المقاومين لعدوّهم.
النضال الحقيقي هو أن تختار الموت على الخضوع، وأن تكتب باسمك على التاريخ لا على جدول الرواتب.
الانتصار الحزين .. القيامة الفلسطينية
غزة اليوم ليست مدينة مدمرة، بل رمزاً نهض من الرماد. كأنها قيامة فلسطينية ثانية، كأنها جسد صلبه العالم، ثم قام ليفضح جلاديه. دماؤها سالت، لكنها أنعشت القضية التي أرادوا دفنها. بيوتها انهارت، لكنها كشفت هشاشة العالم الذي صمت أمامها. أطفالها استشهدوا، لكنهم منحوا فلسطين عمراً جديداً.
الحديث ليس عن الفصيل، بل عن القضية نفسها، عن فلسطين التي أعادت تعريف المعنى، وعن غزة التي دفعت الثمن لتُبقي الاسم حياً.
الذين خسروا رغم انتصارهم
حين نحاول الإجابة على كل تلك الأسئلة، نكتشف أن الانتصار لم يكن كاملاً لأحد.
فـ قناة الجزيرة انتصرت بالكلمة، لكنها خسرت أرواح صحافييها تحت القصف.
والمتظاهرون في العواصم الغربية رفعوا الصوت عالياً، لكنهم خسروا أمنهم ووظائفهم، وتعرضوا للملاحقة والتشويه.
والمنظمات الحقوقية خرجت من هذه الحرب أكثر وعياً، لكنها أيضاً أكثر انكشافاً أمام عجزها؛ إذ لم تمنع المجازر، ولم تحم حتى من دافعوا عن القيم التي ترفعها شعاراً.
لقد خسر الإنسان نفسه حين تواطأت المؤسسات الأممية وصمتت محكمة العدل الدولية، وحين تحولت الأمم المتحدة إلى منصة للبيانات لا للعدالة. وخسر الغرب مثاليته، وخسرت المنظومة الرأسمالية كل ما كانت تتغنى به من إنسانية وحقوق، حين وُضع الدم الفلسطيني في كفة والمصالح في الكفة الأخرى.
وحدها “القضية الفلسطينية” انتصرت حزينة، لأنها كشفت عُري هذا العالم، وأعادت تعريف الخير والشر، وذكّرت البشرية بأن الحرية لا تُقاس بالدم الذي سُفك، بل بالمعنى الذي بقي.