اسطورة الصحراء ( علي حميده )..بقلم د فلاح العموش

اسطورة الصحراء ( علي حميده ) سيرة مليئة بالانجازات ومسيرة مليئة بالتحديات

صحيفة المنتصف

كتب : د. فلاح العموش  خلال الايام الماضية التي تلت وفاة الفنان علي حميدة , تسابقت مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الاقلام وصانعي المحتوى الرقمي بنشر فيديوهات واخبار منها ما هو صحيح ومنها ما هو منقول لعمل سبق للميديا وركوب موجة الترند , وفي هذا المقال سأورد حقائق لم يعرفها الكثيرين عن الفنان علي حميده , رافقته لسنوات كانت مليئة بالحكايات والاحاديث والحقائق منها ما سمعتها منه شخصيا ومنها ما سمعتها من آخرين عنه , وسأوردها على عين الحقيقة على الاقل أن يدرك المهتمون هذه السيرة والمسيرة الحافلة بالانجازات والتحديات .
ميلاده ونشأته
ولد علي حميده في 16/4/1948 في محافظة مرسى مطروح لعائلة بدوية محافظة ومتأثرة بحكم موقعها الجغرافي في البيئة الليبية سواء على صعيد العادات والتقاليد او على صعيد اللهجة والسمه الغالبة على سيما القاطنين فيها , لا يحتاج الامر لاجتهاد كبير عندما ندرك أننا في بداية القرن المضي , نستطيع ان نخيل طبيعة الحياة آنذاك والتي هي حياة أغلب اهل البادية في جميع دول العالم , البساطة في العيش والصرامه في التربية , التكافل والتكاتف الاجتماعي والعادات الحسنة التي ألفها اهل البادية مثل القضاء العشائري وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف , إضافة لمميزات البيئة الصحراوية البدوية مثل الشجاعة والفراسة والصيد الذي يعلم الانسان الاعتماد على نفسه عندما يواجه الصحراء المجردة من أشكال الحياة , بالمختصر حياة بسيطة بعيدة عن التعقيد وفي الوقت ذاته حياة متعبة مرهقة مليئة بالشقاء والجهاد بعكس حياة المدن , كل هذه المعطيات ساهمت في بناء علي حميده وتكوينة الذي يعود الى اكبر قبائل مرسى مطروح المعروفة بالجميعات , بدأ يكبر علي في تلك الاسرة المحافظة وسط فقد اي معطيات ترفيهية او تكنولوجية سوى الراديو الذي كان يستخدم فقط للاستماع للقران الكريم وللاخبار , شبٌ علي وفي بداية مراهقته بدأ البحث في عقله الباطن عن ملاذ يستطيع من خلاله فعل شيء ما ولكنه حينها لم يعرفه بعد , سمع في احدى الايام اغنية لام كلثوم على الراديو فشٌده ذلك النغم الذي لم يسمعه من قبل ولم يسعفه الوقت للاستماع حينها لاغنية ام كلثوم , وذلك لمسارعة والده الى الراديو واقفالة , ولم يعلم والده حينها انه باقفاله الراديو انه يفتح لفتاه الصغير أفقا جديدا سيأخذه الى عالم أبعد ما يكون عن حياتهم البسيطة وقتها .
بدأ علي ينمو وبداخله ذلك الفتى المدهوش لما سمعه وقت ما , وعند وفاة احد اهالي مطروح كانت النساء يقمن باصدار البكائيات الشبيهة بالعويل والنحيب , واقرب الى الموشحات , هذا الاختبار الثاني لعلي فجذبه ذلك النغم الآخر واصبح يطرب ويتنغم بالبكائيات .
توالت الايام وبدأ الحلم الجنين في عقل علي يكبر , أنهى دراسته للثانوية العامة واجتازها بنجاح وأرسله والده الى الاسكندرية لدراسة الآداب , وبالفعل ذهب علي وعقله يأمره بمسارات اخرى فرحل الى القاهرة ودرس الموسيقى , ووجد ما تصبو اليه نفسه وما يرغب في ان يكمل فيه مسيرته , أنهى دراسته ولم يعرف والده انه يدرس الموسيقى الا بعدما انهى دراسته , والتي كان حينها يصرف على نفسه ويتوسد ذراعه ويفترش الرصيف وهو يحضن عوده , ويزور الاسواق الشعبية يقتات بقايا الخضار والفواكه كي يقيت نفسه , وعليه ان يتحمل غهو من اختار هذه الطريق , وبالفعل تابع دراسة الماجستير وحصل على فرصة ذهبية حينها في معهد الفنون في دولة الكويت , وذهب بالفعل عام 1984 وعاد عام 1987 وترك تلك الفرصة المليئة بالنفوذ والعلاقات والمال إذ كانت الكويت حينها في مجدها ومليئة بالفرص وكانت علاقاته بالامراء والشيوخ ورغم كل ذلك آثر الرحيل الى القاهرة لتحقيق حلمه , عاد للقاهرة وتم تعيينه معيدا في اكاديمية الفنون مدرسا للعود وكان متميزا في هذه المساحة الفنية الكبيرة وتم اعتماده في الاذاعة مطربا وملحنا , وفي احدى المساقات كان من تلاميذه الفنان محمد الحلو والملحن سامي الحفناوي الذي لحن له لولاكي لاحقا ,حيث جاءه محمد الحلو يخبره بان الفنانة ورده تحتاج لمدرس لآلة العود , فذهب علي وبدأ تجربته الجديدة وتوطدت علاقته بالفنانة ورده وكانت حينها منفصلة عن الملحن بليغ حمدي الذي حاول استدراج علي لتقصي اخبارها , ثم بعدها سكن في شقة صغيرة في شارع فيصل هو وحميد الشاعري ورياض الهمشري وعزت الجندي .

مسيرته الفنية
وبدأ بداخله تنفيذ الخطة اللاحقة التي جاءت به من الكويت , فبدأ علي يختار مجموعة من الكلمات وكتب بعضها وجهز مجموعة من الاغنيات التي كتبها عزت الجندي ثم تم اضافة اغنية لولاكي في آخرها ولم تكن ضمن اغاني الالبوم الاول , اذ كانت اغنية لولاكي اغنية وطنية كتبها عزت الجندي وكانت مطلعها ( لولاكي يا مصر ما حبيت ولا دقيت على ايدي ثلاث وشمات م ص ر لولاكي يا مصر وما عانيت ولا كنت عمري اعاني ما انتي الهوى والشوق والعشق والمعشوق ) وقام علي وعزت الجندي بتغيير كلمات الاغنية لتصبح اغنية عاطفية ولحنها سامي الحفناوي ووزعها حميد الشاعري قائد موسيقى الجيل والموسيقى المعاصرة آنذاك , وبالفعل تم تجهيز شريط لولاكي واخذه علي ليعرضه على شركات الانتاج , فدخل احدى الشركات وغضب من المراسل او الفراش كما يسمى بلهجة القاهرة لفضاضة اخلاقه , فرحل علي ودخل الى شركة الشرق وكان مالكها حينها يلملم اوراقه لافلاس شركته وينوي اقفالها , دخل الفتى البدوي بشكله الغريب ووسامة اهل البادية وتسريحة شعر نيجرو , فوقف مالك الشركة وقال له اريدك كما انت وكان ذلك بعد قضاء عهد عمالقة الغناء في مصر ام كلثوم وعبد الحليم وغيرهم , وركود سوق الكاسيت ايذانا بحقبة جديده تختصر فيها الاغنية بموضوعها الى خمس دقائق او اقل خلاف ما كانت فيه الاغنيات تتجاوز ربع ساعه ونصف ساعة واكثر .
طرحت الشركة الالبوم في تاريخ 11/7/1988 في الساعه التاسعه صباحا وبعد مرور ساعتين قلبت شوارع مصر بهذا اللون الغنائي الجديد وفي الحادية عشر صباحا لم يستطيع علي حميده المشي في الشارع لشهرته في وقت قياسي لم يتجاوز ثلاث ساعات , ونفذت الطبعة الاولى والثانية والثالة من الشريط حتى اصبحت المحلات تبيع الكاسيت ب6 جنيهات ويقوم الزبون لوحده بتعبئة صورة الغلاف في العلبة , واختلفت الروايات في الكمية التي بيع منها شريط لولاكي منها ما يقول 6 ملايين نسخة ومنها ما يقول 60 مليون نسخة وغيرها ما يقول 80 مليون نسخة , ليصنف بعدها باعلى رقم قياسي للمبيعات بعد مايكل جاكسون ومطرب آخر , واحدثت الاغنية ثورة في عالم الغناء حتى اشار اليها الرئيس حسني مبارك خلال ترأسه اجتماعا وطنيا حيث قال تشتكون غلاء اسعار البطيخ وتشترون شريط لولاكي ب6 جنيهات , وكان في ذات الوقت ينوي محمد عبد الوهاب اصدارالبوم من غير ليه فقرر تأجيله لتغيٌر وضع السوق واكتساح لولاكي الشارع المصري والعربي , وعاشت الاغنية حتى وقتنا الحالي وقام المنتجين باستثمار نجاح لولاكي في عمل فيلم بنفس الاسم والذي تم تغيير الكثير في سيناريو الفيلم والذي كان من المفترض ان تكون بطولته لسعاد حسني وعلي حميده , وعندما اعتذرت سعاد حسني عن بطولة الفيلم لانشغالها بافلام اخرى قامت معالي زايد ببطولته بجانب علي حميده , لا شك ان الفيلم تم نقده بشكل كبير علما انه نجح ونافس كثير من الافلام المصرية حينها وكانت التلفزيونات العربية تبث الفيلم في كل عيد حتى دخول الالفية , وقام الفيلم على البساطة في الاداء لان علي حميده قدم جزء من حياته الحقيقية في الفيلم , وبعدها توالت اعماله والتي كانت انجح وانضج من لولاكي الا ان الناس وقفوا عند لولاكي رغم اعماله اللاحقة الاكثر عمقا ونضجا وتنفيذا , وقالوا عليه صاحب الاغنية الواحده رغم اصداره عشرات الاغاني في عدد من الالبومات بعد لولاكي وكانت بمستوى افضل من اغنيته الشهيرة , وكان علي حميده وقت اصدار البوم لولاكي يبلغ من العمر اربعين عاما وهذا بحد ذاته لا يعتبر نجاح لولاكي صدفة لانه جاء في عمر النضج المعرفي والفني والموسيقي وكان علي وقتها ملما ومثقفا وواعيا ودارسا وليس عابرا , ثم بعد ذلك اصدر البوم كوني لي وكان البوما مميزا وتم الاستعانه ببعض اغاني الالبوم في فيلم لولاكي , وكانت كوني لي اغنية اكثر نضجا موسيقيا وفنيا ولكن حينها زاد التنافس في سوق الكاسيت ومطربي الجيل وفتح علي حميده السوق ليستوعب الفنانين الجدد ليقوم حميد الشاعري صانع النجوم بتنفيذ اغلب البومات مطربي الجيل مما جعل البومات علي حميده اللاحقة اقل رواجا رغم تميزها وتفردها بلون علي حميده الخاص , ثم بعد ذلك اصدر البوم ناديلي بعد انفصاله عن حميد الشاعري لانشغاله بتوزيع كافة البومات المطربين مما اجبر علي للتعاون مع موزع موسيقي آخر كي لا ينتظر تفرغ حميد الشاعري وذلك ربما امتد لسنوات , فقام طارق مدكور بتوزيع البوم ناديلي الذي جاء أقرب للهجة القاهرية وضم مفردات ناعمه ورقيقه واشتهرت منه اغنية عين بعين وسن بسن , وقام وقتها علي بتمثيل فيلم آخر بعنوان مولد نجم مع الفنانة نهلة رأفت حيث احتوى الفيلم على اغلب اغاني البوم ناديلي وكان ذلك عام 1992 , ثم استمر علي حميده بالتعاون مع طارق مدكور واصدار البوم احكي لي عام 1994 واشتهرت منه اغنية أمان أمان وكركدية والغربة , ثم بعد ذلك انتقل علي حميدة الى شركة انتاج جديده لعمل البومه الاخير في المرحلة الاولى وهو البوم نن العين عام 1995 والذي كان يقول عنه علي حميده انه الافضل بعد لولاكي , وبعد عدة صراعات بين شركة الانتاج والضرائب تم سحب كافة النسخ من السوق رغم امكانيات الالبوم الكبيرة الذي اشتهرت به اغنية والله زمان التي بثت في كافة التلفزيونات العربية , كما ضم الالبوم اغنية طربية تحفة بعنوان من كام صيف وصورت ثلاث مرات وكانت تختفي الاشرطة قبل المونتاج والتي كان من المنوي تصويرها في الاردن هذا العام باخراج د. فلاح العموش , ثم بعد هذا الالبوم دخل علي حميدة في ازماته المعروفة مع الضرائب والمؤامرات والتي لن نتحدث عنها لأنها متباينة وتوفي حميده وهو لم يعرف من كان السبب وراء هذه الحرب الشرسة ضده , وكانت البومات حميده تصدر باكثر من شكل وبأكثر من شركة توزيع لنفس الالبوم , وكان اسم علي حميده عند كتابته على الشريط سواء باللغة العربية او الانجليزية يشد انتباه الناس خصوصا صور البوستر .
اختفى علي حميده بعد ذلك بعد مسيلرة حافة في عالم الغناء , اذ ان الفنان حسن الاسمر كان يقول عند قرب صدور البوم لعلي حميده ( الغول نزل … كله يروح ) غاب علي حميده بعد هذا الالبوم لتعرض حياته لمطبات وازمات ساهمت في النيل من شخصيته وشهرته واذته نفسيا , أكمل دراسة الدكتوراة والتي كانت عن الغناء والتراث البدوي في مسقط رأسه مرسى مطروح , وكان ذلك عام 2001 , ثم عاد بنفس العام للتعاون مع شركة صوت القاهرة في آخر البوماته بعنوان خان العشرة والذ ضم 8 اغنيات جاءت اشبه بالالحان التراثية والفلكلورية والتي لم يصدق الكثيرين انها من الحانه لنضجها وسهولة حفظها وكان ذلك بحد ذاته نجاحا , ربما كان حميده يشير من خلال عنوان البومه الى ازمته وصدمته باصدقاءه من الوسط الفني ,وفي تاريخه الغنائي كان يركز على الاغاني الايقاعية السريعة رغم قدرته ورغبته على غناء القصائد لكن السوق لم يكن يستوعب ذلك النوع من الغناء , فكانت اغنية من كام صيف وخان العشرة الاغنيتين اللتين كانتا ذا طابع درامي حزين .
عاد حميده بعد هذا الالبوم للغياب قرابة عشر سنوات وظهر مجددا بعد ثورة 25 يناير 2011 باغاني منفردة مثل لو بس ليله ومد اديك يا مصري وشارك بعدد من المسلسلات مثل نسمة ونصيب وريٌح المدام ومملكة الغجر , ثم تدهورت حالته الصحية بفايروس سي وتم علاجه وكان من اوائل المرضى الذين تلقوا العلاج في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي .
بعد سقوط نظام مبارك اصبحت ترد الى حميدة بعض الاخبار عمن كانوا وراء اقصاءه ودبروا له المؤامرات ولن نذكرها ايضا لتضاربها , بعذ ذلك عمل عددا من الاعمال في الامارات والاردن وذلك بقيادة صديقه المخرج الاردني الدكتور فلاح العموش الذي لمس معاناته واصبح يرشحه لعدد من الاعمال وقدما سويا ثلاث اوبريتات عربية.

وكان آخرها اوبريت انت الدليل وجاء باللغة الفصحى اهداء لجلالة الملك عبدالله الثاني ملك الاردن وللشعب الفلسطيني , والذي كان من انتاج رجل الاعمال المقدسي الكاتب والمحامي راجح ابو عصب ومن كلمات واخراج الدكتور فلاح العموش والحان اشرف مكاوي وتوزيع تامر صقر والذي كان من المقرر اقامة الحفل في الاردن بتاريخ 15/3/2020 وحالت جائحة كورونا دون اقامة الحفل وعاد علي حميدة ومدير اعماله والموزع تامر صقر من مطار القاهرة حيث اقفت الدول مطاراتها , نقول في الخاتمة ان الفنان علي حميده كان صاحب حلم ومشرع فني لم يقدم ما يخدش الحياء على صعيد الكلمات او على صعيد الفيديو كليب , كما كان شخصية مثقفة وبسيطة ومرحة على الصعيد الانساني وتحمل ما لم يتحمله احد , حيث فقد كل ما يملك من اجل تسديد الضرائب واختار الله له حسن الخاتمة فتوفي بعدما نطق الشهادتين , نسال الله ان يسكنه فسيح جناته وعند الله تلتقي الخصوم , سيبقى علي حميدة انسانا قبل ان يكن فنانا مليئا بالحياة محبا للناس عطوفا بالمحتاجين والفقراء … الى مكان أكثر نقاءا وعدلا لا ظلم فيه … عليك رحمة الله الاخ والصديق والرفيق النبيل الوفي .
كتب : د. فلاح العموش