زواج ….رغم المنع الامني وقرار الحاكم.. إعداد اسامة برهم
قصة حقيقية من القدس أسامة برهم
صحيفة المنتصف
قد يحدث ان يتزوج رجلا من صنعاء سيدة من مراكش , و قد يحدث ان تتزوج سيدة من مسقط رجلا من دمشق , اما ان يتزوج اثنان احدهما من باقة الشرقية وباقة الغربية مثلا في فلسطين فهو ضرب من الجنون , و سيدة من كفر قاسم المحتلة لن تستطيع ان ترتبط برجل من جنين ,أما غزة فلا نسب بينها و بين الضفة الغربية و الداخل المحتل و القدس منذ سنوات , منذ ان قسم الاحتلال فلسطين الى اربع قطاعات منفصلة انفصال شبه كامل ,وهو الامر الفصل في لم شمل العائلات الفلسطينية .
علي متعب من القدس وفايزة فاروق زيادة من القاهرة ,قصة قد تكون الأغرب ,علي متعب ,فلسطيني من أصول كردية ,جاء اهله مع فتوحات صلاح الدين الايوبي الى القدس , والدته غزية المولد و النشأة , تزوجت قبل الاحتلال و عاشت حياتها و توفت بالقدس رحمها الله ودفنت فيها , لها أخوة في غزة و مصر, علي منقسم بين غزة ومصر و القدس و الخليل و المهجر ,فعائلته لا تجتمع طالما هناك جنديا يغلق المعابر في وجهة من يدخل و يخرج لفلسطين التاريخية و لا تفتح الا بتصريح مستحيل من سادته .
في بداية التسعينيات , ومع الحديث عن مفاوضات و تحرير وفلسطين مستقلة و ادارة البلاد فلسطينيا واعادة انتشار الفلسطينيين في دولتهم المنشودة, بدأ علي في زيارة مكوكية لضخ دم جديد و إعادة اللحمة في عائلة تفرقت بحكم الحرب و الحدود و التقسيم , فزار مصرا لأكثر من مرة , حتى التقى فايزة ابنة خاله في المنصورة , وقع في حبها ظنا منه أن لا حدود تحول دون الحب , وصدق ظنه ,فلا حدود ولا حواجز دون الحب.
عاد الفوج الاول من العائدين الى غزة من مصر , كانت فايزة برفقة والدها و اهلها كلها شوق للقاء القدس والضفة و الداخل , عساها تعوض اعواما من التشرد و الشتات و تعيش هواء فلسطين الذي سمعت عنه في الاهازيج الفلسطينية و الاغاني الثورية و القصص القديمة , دخلت غزة و حصلت على الوثيقة الفلسطينية تشريفا وفخرا , وصارت فلسطينية خلال دقائق و حملت بطاقة الهوية بعد خمسة ايام من وصولها القطاع وجاءت لتزور اقصاها , فلم يكن “حاجز بيت حانون” كما هو اليوم , و لم تكن “إيرز” اكثر من حاجز “طيار” يفحص من يشتبه بهم فقط, ارادت ان تلتقي ببيت خالها بالقدس و تصلي ركعتين أو اكثر بالمسجد الاقصى و تزور كنيسة القيامة و ترى هذا المغرم الذي ابلغها ان القدس جنة الله على الارض , لم تكن تعلم ان ركعتها بالأقصى وزيارتها الخاطفة ستستمر حتى اليوم , و ستصبح زوجة لفارس احلامها وأما لأولاده وجدة لأحفاده وربة بيته ,لم تكن تعلم ان لجوئها الروحاني للبلاد سيستمر قرابة 26 عام ,وسيستمر حتى يكتب الله فتحا أو زيارة .
تزوجت فايزة علي , أنجبت منه سبعة اولاد, زوجت منهم ابنتان , ولها من الاحفاد ثلاثة ,لم تكن تعلم انها ستغدو مهاجرة غير شرعية , وممنوعة من الحياة و البقاء هنا , لم تحصل خلال فترة اقامتها على أي وثيقة تسمح لها بالبقاء ,منعت من العلاج و من ادنى حقوقها المدنية التي تنص عليها الاعراف الدولية و الانسانية , لم يكن بينها وبين أهلها إلا الرسائل الورقية ,لم يكن العالم منفتح و لم تكن تكنولوجيا الاتصالات متوفرة كما هي اليوم , فعاشت فايزة هنا مع رفيقها ,لم تشعر ذات يوم كيف تجلس الامم عند ابنتها وتصبرها على الم المخاص, و لم تحتفل بولادتها و بأسبوع ابنها كما يحتفل أهلها في مصر, فلم تلتقي بأهلها منذ تزوجت علي .
في عام 2017 كان المصاب الأعظم عند فايزة, يوم وفاة والدها رحمه الله ,والدها هو اللواء فاروق ابراهيم زيادة لم تستطع الذهاب للجنازة , ولم تلقي عليه نظرة الوداع الاخيرة , طلبت تصريحا لتغادر فكان ترحيبا لطلبها من الحاكم لكن ذهاب بلا عودة, و بعد أشهر رحلت أمها و لم تتغير شروط السفر, فبقيت فايزة في القدس , لم تظفر بحضور جنائزهما, و حتى اليوم لم تحظى بالوقوف بجوار قبر والديها لقراءة فاتحة الكتاب ,فصبرت فايزة و بقيت في القدس رغم الموت و الفراق و اللوعة .
تقول فايزة انها تشتاق للقاهرة , لصديقاتها و زميلاتها و حارتها وطعم ماء مصر, هذه الايام تتواصل مع اخواتها ومع العائلة من خلال العالم الافتراضي, سألتها هل يشفي غليلك هذا اللقاء من خلال شاشة , قالت انها تشتاق لتشم رائحة اخواتها و تضمهن و تشتاق لأن تجلس معهن حتى الفجر كما كانوا يفعلن قبل أعوام طويلة , سألتها عن أصهارها , وعن زواج بناتها وهل زوجتهم لمن يسكن خارج القدس ,فأجابت بلهجتها المصرية الفلسطينية أن أهم شروطها كانت عند زواج بناتها أن يسكن العريس في المنطقة الجغرافية التابعة للقدس , و أن يكون العرس بنفس المنطقة , ممنوع أن تدخل لمناطق تابعة للسلطة الوطنية , و ممنوع ان تتجول كي لا يتربص بها الجنود ويرحلونها قسرا الى غزة , فقالت انها تعمل على ان تعوض نفسها من خلال علاقتها ببناتها عما لم تعيشه اثناء زواجها فهي رفيقتهن بالولادة و الفطام و حتى الامور الصغيرة و اليومية مع اولادهن , تقول ان اولادها اليوم هم العوض و السند و الملجأ و المسكن وهم أهلها و أصدقائها و كل حياتها .
فايزة عاشت بالقدس قرابة ربع قرن , لم يدخل أهلها بالعيد عليها كما بالعادة , ولم تعيش كما تحب أي سيدة في عالمنا العربي و مع عاداتنا الشرقية ,هي تنازلت عن كل ما تهواه النسوة كرامة لبيت أحبته وزوج و عائلة و أولاد , أما زوجها فتقول فايزة انه الحامي , و انه كان أهلا ليكون أهلا, لم يخذلها ,لا زال بيتهم دافئ وكأنهم لا زالوا في شهر العسل ,هو يعلم جيدا ان هذا البعد ثمنه باهظ, و كان خير عوض لزوجته .
فايزة وزوجها والاولاد يسكنون البلدة القديمة بالقدس , في عام 2019 استولى غلاة المستوطنين على بيت مجاور لبيتها , وبدأت قصتها مع جنود الاحتلال , اعتقالات ومداهمات شبه يومية ,اعتقل الجنود اولادها اكثر من مرة و اعتدوا عليها , تم تحويلها للعلاج نتيجة الضرب المبرح , امضت بضع ليال في مخفر القشلة و عرضت على المحكمة , اعتقل زوجها مرارا , أصدرت المحكمة أكثر من مرة قرار يقضي بإبعاد زوجها عن المسجد الاقصى المجاور لبيته , عاشت مرارة المحاكم و قسوة الانتظار المذل على ابواب المخافر , أصيب ابنها البكر في رأسه نتيجة اعتداء “جيرانهم” الجدد عليه ,والابن الاخر لا يزال يحاكم بتهمة الدفاع عن امه يوم اقتحم الجنود بيتهم و أغشي عليها ,أما بقية الأطفال فهم عرضة للاعتقال و التنكيل في أي لحظة , ولا زالت رغم هذا تعيش تفاصيل قصة حب مع زوجها ومدينتها والعائلة .
أما أنا فاختياري لهذه القصة ليس اختيارا عشوائيا , أنا ضيف على بيت علي وفايزة, ضيف دائم ولست وحدي, هذا البيت هو حاضن لكل من يأتي الى المدينة , إما للعلاج من غزة , أو للعبادة من الداخل أو الخارج , هذا للبيت هو البيت الدافئ لنا في كل الفصول , أنا وغيري نعلم أن هذا البيت هو صومعتنا و بيتنا الدائم المفتوح المضياف لنا داخل أسوار البلدة القديمة , و علي يحاول ان يعوض فايزة بفقدان العائلة بكل ضيف و كل حبيب كي لا تشعر حبيبته بالوحدة في بيتها .
قانونيا حاولت فايزة الحصول على تصريح إقامة , و إذن سفر لزيارة أهلها و قبر والداها, و رقم بطاقة هوية , و جواز سفر كما الكل بالعالم , كان الرفض دائما وكان التهديد بالترحيل القسري لعدم قانونية الإقامة بالقدس , و بقيت فايزة رغم المنع , بقيت في مربع لا يتجاوز كيلو متر مربع واحد , داخل البلدة القديمة بالقدس , لا تخرج من البلدة إلا تهريبا , ولا تزور يافا و حيفا والضفة , بقيت فايزة وبقيت قصة الحب التي بدأت قبل أوسلو كما كانت , و صارت العائلة كبيرة بأولادها و احفادها و العلاقة الطيبة , رغم المنع الأمني .